لفت انتباهى تقرير نشرته إحدى الصحف العربية الشهيرة، التى تصدر فى لندن، كتبه مراسلها فى الإسكندرية، بعنوان: "المثقفون فى مقاهيهم والإسلاميون فى الشارع". تدهشنى عادة هذه المقابلة، التى اخترعها الماركسيون واليساريون العرب إجمالاً، تلك التى تضع "المثقف" على علاقة تناقض مع "الإسلامى" على النحو الذى يعلى من قدر الأول باعتباره "مفتحًا" والثانى "قُفلاً"! لقد سبق لى أن لفت إلى هذه القسمة الماركسية، التى تبحث عن رد اعتبار ل"الذات اليسارية" المهزومة أمام "المد الإسلامى"، بدون أن تتكبد عناء البحث عن أسباب الهزيمة، وكأنها تستدعى تجربتها مع هزيمة يونيه عام 1967، حين شرعت فى البحث عن مصطلح تخفى فى تلابيبه "عار" الانكسار، فاخترعت كلمة "النكسة"! جان بول سارتر، وضع تعريفًا دقيقًا عن "مفهوم المثقف" فى كتابه: "دفاعًا عن المثقفين"، عندما وصفه بأنه "الذى يستطيع تجاوز المجال الضيق لاختصاصه". فى العالم العربى، فرض اليسار وصايته على تحديد تعريف هذا المصطلح، وحصره فى كل من كان "يساريًّا". واليسار فسيفساء تشمل تيارات متعددة، ولكنها تُستقى فى النهاية من الأصول الماركسية، سواء على مستوى العقيدة أو الروح والنفَس والنكهة، إذا جاز التعبير. "الإسلامى" من منطلق هذه الوصاية على صوغ مضمون المصطلح، ليس "مثقفًا"؛ لأنه ليس "ماركسيًّا"، ولا يتبع الأخيرة فى الأصول والفروع. ولقد وصفت مجلة "روزاليوسف" فى بدايات عام 2000 المفكر الاقتصادى الراحل عادل حسين رحمه الله بكلمة: "مثقف سابق"، بعد تحوله من ماركسية "هنرى كوريل" اليهودى المصرى، الذى يعتبر الأب الروحى للحزب الشيوعى المصرى إلى تبنى "الإسلام الحضارى" طريقًا لعودة الوعى إلى الأمة. اكتفى اليسارى العربى، بتعليق بادج "مثقف" على "ياقة" بزته الأنيقة بعدما دلف إلى الانخراط فى الرأسمالية الجديدة فى عصر الأمركة لتعويض إحساسه ب"خيانة" الفكر الذى "ناضل" من أجله لسنوات، وللشوشرة على "المنتصر" الجديد الإسلام السياسى، الذى أزاحه بسهولة فى "نزهة" العودة إلى الشارع. العنوان كان دقيقًا: "المثقفون فى مقاهيهم والإسلاميون فى الشارع".. هكذا لخص كاتب التقرير، أصل أزمة اليسار العربى، وسر تفوق الإسلامى عليه.. إنها المسافة ما بين "التسكع" على المقاهى والعمل الدءوب وسط الناس فى الشارع. قلما تصادف يساريًّا إلا يعتقد فى نفسه بأنه "انطونيو غرامشى"، وفى ذاته تجد تحقيقًا لنبوءته، وتجسيدًا لمفهومه عن "المثقف العضوى"، رغم أن الأخير لم يعرف ترف الصالونات أو (قعدات) المقاهى، وإنما قضى عمره مكافحًا من أجل الفقراء، وقضى ثلاثة عشر عامًا فى سجون "موسولينى"، ثم مات بعد خروجه من السجن بقليل. اليسار فى العالم العربى اكتفى بحرق أحجار "الجوزة"، وتلويث الهواء بدخان الشيشة، والانزواء فى المقاهى ل"الثرثرة" وحقن الأوردة ب"أفيون" التضخيم الفارغ، والاستسلام الكامل للغيبوبة، فالواقع بالنسبة لهم قد بات أكثر مما يحتمل. [email protected]