لعلك تستدعي شيئًا من الدهشة حين تعلم أن بعض المصريين وخاصةً أهل الريف، يَشْرعُون في تجهيز مراسم عزاء مَيتهم قُبَيل أن يموت!! إذ أن أهل المريض الذي لا يُرجي شفاؤه، يديرون عجلة تفكيرهم نحو كيفية الاستعداد لإقامة عزاء فاخر لهذا المُنْتَظَرْ صعود روحه بين لحظةٍ وأُخرى!! وبمجرَد تأكُدْ أهل المُتوفَى من نبأ وفاتُه، يُسارعون بإقامة سرادق باهظ التكلُفَة، ثم الاتصال بأكبر مقرئي إذاعة القرآن الكريم، وكأن مقرئ الإذاعة قادر على أن يُحيي الموتى أو أن يبعث من في القبور أو أن قراءته لها سرها الباتِع لأن تنقل الميت من مراقد الدود إلى جنات الخلود!! وكثيرًا من المقرئين يسعون للزج بهم داخل إذاعة القرآن الكريم، كي يُحققوا حلم الشهرة الأوسع، وليبدأوا أولى خطوات الثراء، إذا ما أصبحوا إذاعيين!! وأحيانًا قد يطلب مقرئ العزاء أجرًا يتعدى خمسة عشر ألف جنيه، فيرفض أهل الميت، ويضطرون للاتصال بمقرئ آخر، ليُعْلِنْ رغبته في تقاضي مبلغ مُماثل، فيرفض أهل المتوفى للمرة الثانية، ويتصلون بمُقرئ ثالث ورابع، حتى يُدركوا أن المقرئين جميعًا، قد أصابهم هَوَسْ جمع واكتناز أُلوف الجنيهات التي لا طاقة لهم بها. وهذا يدفع أهل المَيِتْ ليتساءلوا فيما بينهم، هل يدفنون ميتهم، ويقتصرون على تشييعه بلا عزاء لتكريمه وهو في قبره؟!، بل ويخشون أنهم لو تقاعسوا عن ذلك سُيصبحون مصدر سُخرية وتَهَكُم للقاصي والداني ولن يَسْلَموا من ألسنة أهل القيل والقال، وربما يُتهمون بالبُخل والشُحْ، ويُعايرون بعَجْزِهم عن إقامة سُرادق يليق بمقام ميتهم، ذي الثروات والضِياع!! وربما أن مقرئًا يتقاضي مبلغًا بسيطاً نظير إحيائه العزاءات بمسقط رأسه، فإذا انتقل إلى بلدة أُخرى، فإنه يطلب أجرًا أكبر، باعتباره في غَيرْ بَلَدِه "فقي غريب"، واعتقادًا من الناس بأن الشيخ البعيد وَلِيْ ومبروك! وأحيانًا يطلب المُقرئ من أسرة الفقيد، أن يرسلوا الأجرْ المُتَفَقْ عليه، عبر حساب بنكي أو بريدي، خوفًا أن يتعرُض لعمليات سرقة أو سطو، أثناء عودته - ليلاً- لمنزله بعد انتهاء العزاء. وذات مرَة تُوُفِيَتْ سيدة ظهرًا، فقررت أُسرتها تأجيل دفنها إلى ظُهر اليوم التالي، لحين استقرارهم علي اختيار المقرئين الذين سيحيون ليلة عزاء والدتهم، غير مُبالين بأن تكريم الميت هو التعجيل بدفنه.. غير قلقين من الأجر الُهائل الذي سيطلبه هؤلاء المُقرءون.. وإنما شَغَلَهم أن يعلم الحاضر والغائب بأن عزاء والدتهم كان فخْماً لا مثيل له. وربما يُوصي بعض المقرئين -هاتفياً- قبل وصوله العزاء بأن تُطبَخْ لهم وجبة عشاء مُعينة، فتكون مثلاً من اللحم أو الدجاج، وأحيانًا يُلتمسون أن يُطهي ما أُعِدَ لهم من طعام أو يُسَوَي بطريقة أو بأُخرى!! وإني في عُجاب من المُقرئ السائل لآلاف الجنيهات نظير تلاوته، زاعمًا أن هذا مٌقابل احتباس وقتُه، رغم إننا لو أحصينا زمن التلاوة للمقرئ في أي عزاء، سنجد أنه يتلو -عَصْراً- ما تيسر من آيات الله، في وقت زمني يُقارب "خمسة وأربعين دقيقة"، وليلاً يُكمل تلاوته، في غضون ساعة أو أقل، ثم يختَتِمْ العزاء بالتلاوة الثالثة، وتكون مُدَتها حوالي ثلاثين دقيقة. معني ذلك أن مُجمل تلاوة المُقرئ بالعزاء، حوالي "مائة وخمسة وثلاثون دقيقة فقط" أي ساعتين وربع الساعة، فهل يعقل أن ثمن احتباس هذا الوقت القليل، يكون ذلك المال الكثير!! والمدهش هو استدانة البعض لإقامة سرادقات العزاء لأمواتهم، وأحيانًا يختلف أهل المُتَوفَي فيما بينهم، فينقسمون فريقين، فريقاً يُصِرْ علي إقامة عزاء للتَباهي به، وفريق يبغي أن يقتصر علي دفن جثمان فقيدهم، ثم إخراج أمواله كصدقة للفقراء والمساكين.. والعجيب لو فوجئنا بأن الميِتْ ذاته، هو مَنْ أوصي قُبيل مماته بأن تقام له ليلة عزاء يتحاكي بروعتها الجميع، تاركًا المال اللازم لذلك! وذات مرة اشتاط مُقرئ غضبًا حينما أعطاه أهل المتوفى أجرًا أقل من المُتفق عليه، وأخذ بالنقود وطرحها أرضًا، واصفاً أهل الميت بالخَللْ في رجولتهم، لإخلالهم باتفاقهم معه!! وربما يُزايد بعض الجالسين حول المُقرئ في مَدح صوتِه وحُسنْ تلاوته، ومنهم من يُداوم علي تقبيل يده ورأسه وأكتافِه، لعل أن ينالهم من الحب جانباً، فيمنحهم المقرئ شيئاً من المال كمُكافأة لمدحهم المُبالَغْ فيه! غير أن مقرئي العزاءات، ربما لا تسْلم أجورَهُم من الأعين البصَاصة التي لا تَمِلْ من حساب ما يتقاضون من أجور كل ليلة، ومن ثم عدْ وإحصاء إجمالي أجور تلاوات الشهر كاملاً، ناهيك عن ملاحقة تلك الأعين بنظرات التَمَنِي إلى السيارات الفارهة التي يستقلها المقرئون! ويظل الجدل قائمًا منتظرًا فتوى فاصلة حول مشروعية أجور مقرئي العزاءات.. أهيَ حلال أم حرام؟، وكذلك رأي الدين في المال المُنْفَقْ علي تشييد السرادقات الفاخرة! [email protected]