مشهد المقرئ الذى يتوسط سرادق العزاء مألوف بالطبع، ولكنه سيبدو مدهشا لكثيرين لو كان مكان المقرئ «مقرئة». ولكن العديد من المقرئات موجودات بالفعل منذ زمن، وفى القرى أكثر منهن فى المدن، وفى صعيد مصر لا تزال تسمع عن الشيخة ليلى حسن، إحدى المقرئات الشهيرات. وحتى فى حى شعبى مثل الجيزة لا يزال يتردد فيه أسماء مقرئات شهيرات مثل «الشيخة حميدة» و«الشيخة صفية» حتى بعد وفاتهما. وبالرغم من أن هذه المهنة انحسرت كثيرا، فإن هناك بعض القليلات الباقيات على قيد الحياة، مثل الحاجة نور. منذ أربعين عاما، تقرأ القرآن فى المآتم والمناسبات، وحتى فى غير المناسبات. فالبعض يحب أن يستمع للقرآن الكريم كل أسبوع من مقرئ، أو يتبرك بقراءته فى منزله. تشرح الحاجة نور طبيعة مهنتها: « أعمل بقراءة القرآن الكريم فى المآتم، أقرأ من الصباح حتى الظهيرة فى بيت المتوفى، مرات أخرى أقرأ فى سرادق السيدات وقت تلقى العزاء». ورغم اقتراب عمرها من السبعين يتجلى صوتها واضحا ومؤثرا، ويعرفه العديد من قدامى سكان مناطق بين السرايات والجيزة وقراها أبو قتادة وصفط اللبن. تروى الحاجة نور: «شاء الله أن أفقد بصرى وأنا فى سن الخامسة، فأرسلونى للكتاب حيث علمنى الشيخ فهمى فتح الباب تلاوة القرآن وحفظته». ووقتها كانت الحاجة نور تقرأ لجيرانها فى منشية البكرى فحسب، أما احترافها هذه القراءة فجاء بعد ذلك بسنوات، تحديدا بعد زواجها وإنجابها أبناءها الأربعة. «قررت أن أقرأ القرآن من جديد، عارضنى زوجى فى البداية، لكنه اقتنع فى النهاية، لأنه عمل شريف وكله خير». بعد وفاة زوجها، اعتمدت الحاجة «نور » على مهنتها كمصدر دخل لها. «بدأ أجرى بجنيهين فى الليلة عام 1986 ثم جنيهين ونصف الجنيه ثم خمسة ثم سبعة ثم خمسة عشر ثم عشرين... والآن يتراوح بين خمسين وخمسة وسبعين، والبعض يدفعون أكثر». الإقبال على استقدام المقرئات يتراجع بشدة كما تؤكد الحاجة نور: «زمان كنت أخرج للعمل يوميا وأحيانا بالنهار وحتى المغرب، أما الآن فتمر علىّ أيام دون أن يطلبنى أحد». ولعل السبب فى ذلك هو انتشار السماعات الكبيرة التى يمكن معها تشغيل آيات القرآن الكريم بصوت أحد المقرئين المعروفين، وكذلك ارتفاع تكلفة إقامة سرادق و«فراشة» العزاء، وهى المكان المعد لاستقبال المقرئ، مما أدى لتراجع الطلب على المقرئين بشكل عام. لدى الحاجة نور تفسير آخر لهذا التراجع فتقول: «بسبب السنية! أو بعض المتدينين من جيران وأقارب أسرة المتوفى، فتجدهم يعارضون إقامة عزاء بحجة أنه بدعة وأن العزاء يكون فى المقابر بعد دفن الميت، وكذلك لأن صوت المقرئة السيدة لا يجوز أن يرتفع فى ميكروفونات». لا تبدو المهنة بمتاعبها جذابة للأجيال الجديدة، ولكن الصوت العذب وحب القرآن لا يزالان طريق العديد من الفتيات ليصبحن مقرئات. سمية الديب الآن أشهر مقرئة شابة فى العالم رغم عمرها الذى لا يتجاوز 15 عاما. سافرت سمية فى الرابع من شهر رمضان إلى الجزائر كضيف شرف على مسابقة «فرسان القرآن»، بعدها توجهت إلى تركيا مع أسرتها حيث تتلو القرآن فى مجالس وحفلات ليلة القدر، وسبق لها أن قدمت تلاوات القرآن الكريم فى معظم الدول العربية وتركيا وماليزيا وإيران. بدأت رحلة سمية بالمصادفة كما تروى هى: «كل إخوتى يحفظون القرآن الكريم والحمد لله وبقراءته العشر، وكلنا ورثنا عن والدنا صوتا جيدا، وكان إخوتى قد أرسلوا إلى الأستاذ أحمد مصطفى أصواتهم، ضمن مسابقة فى إحدى القنوات التليفزيونية . أعجب بهم الأستاذ أحمد الذى يدرب على التلاوة، ثم استمع لصوتى وقرر تدريبى على المقامات الموسيقية». رغم نجاحها وشهرتها، تعتبر سمية أن قراءتها للقرآن لا تتجاوز كونها هواية، أما مهنتها فتخطط أن تكون التدريس سواء فى أحد معاهد القراءات أو فى الجامعة أو خارج مصر، خاصة مع دراستها بأحد المعاهد الأزهرية المتخصصة فى علوم القرآن. العلم الشرعى ضرورى للمقرئات، كونهن يتواجدن فى مواقف تستدعى إلقاء بعض العظات، خاصة فى المآتم، وهو ما تفعله الحاجة نور «أحيانا ألقى درسا بعد تلاوة ربعين أو أرشد الحاضرات إلى تصحيح سلوك معين». وتوضح: «السيدات بطبيعتهن ثرثارات! وإذا ما اجتمعن يتحدثن عن هذه وتلك.. فأحاول لفت أنظارهن لعدم جواز ذلك». فى الماضى كانت النساء تعلم الرجال الذكر الحكيم بقراءاته المختلفة، حتى إن الشيخ أحمد نعينع تلقى إحدى إجازاته لتلاوة القرآن الكريم من مقرئة، هى الشيخة أم السعد التى يعدها كثيرون أشهر قارئة قرآن فى العالم، وظلت طوال أكثر من خمسين عاما تعلم قراءة القرآن للرجال والنساء، حتى إنها تزوجت أحد تلاميذها وهو الشيخ محمد فريد نعمان الذى كان من أشهر القراء فى إذاعة الإسكندرية. ومعلمتها كانت نفيسة بنت أبى العلا بن أحمد بن محمد بن ضيف التى عاشت فى الإسكندرية فى العشرينيات، ولقبت « بشيخة أهل زمانها». وعلمت الرجال أيضا الشيخة نفيسة زيدان، التى اشتهرت فى الخمسينيات والستينيات. سمية الديب رغم حلاوة صوتها وتحصيلها علوم القرآن، قررت أن تتوقف عن قراءة القرآن الكريم على الملأ بعد عام أو عامين، لتقتصر تلاوتها على النساء فقط، بحيث لا يسمع الرجال صوتها! بينما لا تفكر الحاجة نور فى العمل بمهنة إضافية أو تغيير مهنتها: « لا أعرف مهنة سوى هذه، والعمل فى تلاوة القرآن شىء أحبه وأجيده»، وتبتسم قائلة: «من الأساس لا أستطيع القيام بعمل آخر، فأنا مسنة بما يكفى، ولا أجيد القراءة والكتابة ونظرى لا يسعفنى».