كنت فى عزاء بقرية مُصطاى بالمنوفية، وكان مقرئ المأتم، هو أحد أعلام إذاعة القرآن الكريم، ووجدت نفسى - كعادتى - متشوقًا للاستماع لصاحب الصوت الشجى، وعندما وصلت إلى "دوار الخواطرية" حيث مكان العزاء، وجدته يكتظ عن آخره بالمعزين والعاشقين لصاحب الأداء الجميل. كان الحضور ما بين جالس وواقف، المكان مزدحم للغاية.. الجموع غفيرة، العيون تترقب.. والألسنة تتأهب لاعتزال لهو الحديث احترامًا للقرآن.. الآذان تتهيأ تشوقًا لحُسن الإنصات، والقلوب تسترجى قرآنًا يشفى عِلتها، والأفئدة تبغى انشراحًا وثباتًا بحلاوة النور المبين.. جو روحانى يفيض بالنفحات النورانية، يحيط بمجلس الذكر الحكيم. كان محبو الشيخ فى سعى لأن يكونوا على مقربة من منصَته، خاصةً أن أهل تلك القرية، يشتهرون بحبهم الجمْ لمقرئى القرآن الكريم، فتجد شيوخها وشبابها وبسطاءها ووجهاءها يحرصون على حضور المآتم لتشجيع مقرئيها، والدعاء لهم بالفتح لهم والرضا عليهم، فتجد حال المستمعين ما بين ذاكر لله ومُكبِر وخاشع وباكٍ ومُتعِظْ. وبينما كان المقرئ يتلو ما تيسر من آيات سورة "الشعراء"، إذا ببصرى يقع على شخص، متوسط المظهر والثياب، وقد جذب نظرات الحاضرين إليه، عندما رأوه جالسًا بالقرب من الشيخ، مُستخدمًا إحدى يديه ليصنع إشارات كالموج أثناء تلاوة القرآن، وكأنه يُلحن ما يرتل المُقرئ من آيات، أو يرسم على الهواء ما يُؤديه الشيخ من مَقامات قرآنية، ثم علمت أن صاحب السلوك المِعوَج، قد جاء بصُحْبَة مقرئ القرآن الكريم!!. كان صاحب الشيخ دائم التبسُم، دائم الحركة، دائم المزاح.. غير مستقر فى مكانه، يتجه نحو الشيخ من حين لآخر، ليُقبل رأسه، لا يتوقف عن توجيه عبارات مُضحكة للمُقرئ بزعم تشجيعه على التلاوة بطريقة أروع!! حركات الرجل أتعبت آذان المستمعين وأدهشت أبصارهم، وجعلتهم فى حيرة من أمرهم، أينظرون إلى صانع اللهو أم ينصتون إلى مقرئ الآيات البيِنات؟!. كان صاحب مولانا المقرئ، متوهمًا بأنه كوميديان، قادر بقفشاته المُضحكة بأن يحشد جمهورًا كبيرًا فى حب الشيخ، غير مُدرك بأن صانع سخافات وبِدعْ، تضر وتؤذى آداب الاستماع لكلمات الله. كان مُلحن مولانا، يقوم ويقعد، يُطلق من فيه صفات مضحكة وعبارات مُزعجة وغير مألوفة، يُوجهها للمقرئ تارة، وهو يتحدث إليه بصوت عالٍ، وتارة أخرى يلتقط له الصور، ولوفود المعزين، بكاميرا صغيرة لم تُفارق يده. وفى إحدى مرات تقبيل مُلحِن مولانا لجبين المقرئ، وعند قيامه من مقامه، إذا به يصطدم بشيء اعترض ساقيه، فيقع على الأرض أمام منصة الشيخ، فيدخل المعزون فى حالة ضحك وقهقهة عالية جدًا، وكأنهم يشاهدون فقرة كوميدية، لكومبارس أو مونولوجست على خشبة المسرح، غير معتبرين من آيات كريمات تُتلى عليهم!!. استاءت نفسى غضبًا من المزاح الجماعى المتبادل أثناء تلاوة القرآن، وكنت غاضبًا من ضحكات تَرتفع، وبدع تُتبع، وأصوات لا تنقطع، وضجيج يؤذى سمع كل مستمع، والقرآنُ يُتلى بلا تقوى بلا ورع!!. أما أهل الفقيد، فكان حالهم التفاخر، والظنون تغويهم بأن سلوكيات صاحب الشيخ، هى السبيل الأعظم نحو نجاح عزائهم.. ليُصبح ذلك العزاء، حديثًا للقاصى والدانى.. فتتحاكى به ألسنة أهالى القرية، بأنه كان كذا وكذا، يقصدون أن العزاء كان فاخرًا، ولا مثيل له!!. كنت مُستنكِرًا لهو وجهلْ، مُرافق مقرئ العزاء، متعجبًا من ترحيب المقرئ بالأفعال الماجنة لصاحبه، أما أصحاب الميت، فقد شغَلَهُمْ استطلاع آراء المعزين، بشأن فخامة وبهرجة عَزَائهم الذى تعدى تكلفته آلاف الجنيهات، ولو تصدَقوا بها على فقراء القرية لكان خيرًا لهم!!. كان أهل المُتَوَفَى يبحثون عن دلالات، تبعث الطمأنينة فى قلوبهم بشأن نجاح عزائهم، من خلال النظر فى أعين المعزين الفرحة والمنصرفة بعد العزاء، ووجوههم الضاحكة، وألسنتهم المدَاحة!!. وبعد أن انتهى العزاء.. خرجت من دوار مصطاى بقويسنا، عائدًا إلى بيتى وأنا أسترجع بذاكرتى بعضًا من مشاهد العزاء، وسلوكيات المازحين وأصحاب الجاهلية وفيهم مَنْ ضحكوا أثناء تلاوة آيات الوعظ.. ومنهم من لم ينشغل بالدعاء للميت، ولم يعنيهم حالُه، وقد صار فى معسكر الموتى، فما أحسَ الضاحكون بوحشة الميت فى قبره، بل ربما لم يتذكره أى مازح بدعاء ينفعه، عجبًا لأهل الدنيا.. يدفنون موتاهم ولا يعتبرون لهم!!.