جدَّد حادث «رفح»، الغادر بحق الجنود المصريين الصائمين الحديث مرة أخرى عن تنمية وتعمير شبه جزيرة سيناء، وهو حديث ملََّ الشعب المصرى سماعه منذ عقود طويلة.. فبعد هزيمة عام 1967م، تردد الحديث بقوة عن أهمية تعمير سيناء الإستراتيجية، ثم ما لبث الحديث أن توقف، وبقيت سيناء (60 ألف كم2)، كما هى صحراء جرداء تحفل بمخزون هائل من الثروات (30% من سواحل مصر، و13% من الخامات والمعادن، 10 ملايين متر مكعب من الرخام، مليون طن من الحجر الجيري، 800 مليون طن من الطفلة، و19 مليون طن من الجبس، ومليونا طن من الكبريت، و20 مليون طن من الرمال السوداء، و4 ملايين طن من الرمال البيضاء، و27 مليون طن من الفحم، إضافة إلى أكبر مخزون على مستوى العالم من مادة السيراميك، ومخزون هائل من البترول، و7 محميات، وفق معظم الدراسات). وفى عهد الرئيس الأسبق «السادات»، تجدد الحديث عن تعمير سيناء، حيث تم استحداث وزارة التعمير برئاسة عثمان أحمد عثمان، خلفه فيها المهندس حسب الله الكفراوى، وكان هدفها الأول تنمية سيناء (6٪ من مساحة مصر) بعد تعمير مدن القناة، وقامت تلك الوزارة بجهود كبيرة فى سبيل وضع البنية التحتية لتعمير سيناء، لكن المشروع توقف فى عهد «مبارك»، وقد قال المهندس حسب الكفراوى عن ذلك فى إحدى الندوات: سوف يأتى وقت تفتح فيه جميع الملفات، ولابد أن يعلو صوت الحق ويُكشف المتآمرون على هذا الوطن. كانت خلاصة عهد «مبارك» بالنسبة لسيناء نهضة سياحية على أعلى مستوى فى شرم الشيخ والغردقة وغيرهما، وبقيت بقية سيناء العظيمة تشكو الإهمال والضياع الأمنى، ويبدو أن المسموح به كان فقط إقامة مشروعات سياحية، وجد فيها «مبارك» وكبار لصوص عصره ضالتهم فى تحويلها إلى «كروشهم»، بينما ظل أهل سيناء لا يعرفون من الدولة سوى الأجهزة الأمنية، وهى تطاردهم وتسجنهم وتذيقهم الويلات. وانتهى عهد «مبارك» بل وعهود الظلام كلها، وجاء عصر ثورة 25 يناير، وبات يقود مصر اليوم رئيس منتَخَب من الشعب لأول مرة هو الرئيس «محمد مرسى»، وكنت أتمنى أن يستحدث فى الحكومة الجديدة وزارة خاصة بتعمير سيناء، أو على الأقل إعادة الحياة لجهاز تعمير وتنمية سيناء وترفيعه أو ترقيته إلى وزارة دولة أسوة بجهازى الرياضة والشباب اللذين باتا وزارتين. ولا شك أن هذا الحادث الغادر الذى وقع لقواتنا فى رفح قد لفت انتباه الرئيس والحكومة بقوة لوضع أولوية تعمير سيناء فى المقدمة على غيرها، ومازالت الفرصة سانحة لإنشاء وزارة خاصة بها، وإن لم يكن فإن تحويل جهاز تعميرها إلى خلية نحل تنطلق للتعمير، وفق أحدث علوم العصر، بات هو واجب المرحلة، فلا مجال لتأمين سيناء وتأمين مصر إلا بتعميرها كاملة، إلى جانب تواجد الجيش المصري، وذلك يقدِّم لمصر كثيراً من الحلول لمشكلاتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية، فبدون تعمير سيناء سيظل هذا الجزء المهم من بلادنا غريباً وحيداً يعانى الإهمال من بلده، ويعانى الغزو الثقافى والفكرى والسياسى من جواره الصهيوني.. وأعتقد أن الرئيس «محمد مرسي» ليس فى حاجة لكى يزايد عليه أحد فى هذا الصدد، ولكنى أطالبه بسرعة التحرك نحو تعمير سيناء. وغنى عن البيان هنا، فحديثى عن سيناء ليس اكتشافاً جديداً، وإنما يأتى ضمن آلاف الكتابات والمقالات، بل والدراسات التى تناولتها عبر عقود طويلة، ولا يساوى كلامى هنا سوى إضافة ضمن قائمة تلك المقالات؛ سعياً للتذكرة، فمن حظ سيناء ذلك الكنز المفقود أنها كانت دائماً خلف الذاكرة لدى حكومات مصر المتعاقبة، وفى الوقت نفسه كانت فى بؤرة اهتمام الحركات الشعبية وخاصة الحركة الإسلامية.. وقد وقع نظرى - بهذه المناسبة - على مقال كتبه الإمام الشهيد حسن البنا عام 1930م يرد فيه على ما جاء فى بيان «صدقي» باشا، رئيس وزراء مصر فى ذلك الوقت، قال فيه: «أكتب هذا بمناسبة ما ورد فى بيان صدقى باشا على لسان أحد الساسة المصريين عن التعبير عن سيناء المباركة بلفظ «برية» سيناء، ووصفها بعد ذلك بأنها أرض قاحلة ليس فيها ماء ولا نبات إلا أربعة بلاد جعلت للتموين وقت اللزوم. وقد أثار هذا المعنى فى نفسى سلسلةً من المحاولات، التى قام بها المستعمرون منذ احتلوا هذه الأرض؛ ليركِّزوا هذا المعنى الخاطئ فى أدمغة السياسيين المصريين، وفى أبناء سيناء أنفسهم، فأخذوا يقلِّلون من قيمتها وأهميتها.. ويجعلون الجمرك فى القنطرة لا فى رفح؛ إيذاناً بأن ما وراء ذلك ليس من مصر حتى صار من العبارات المألوفة عند أهل سيناء وعند مجاوريهم من المصريين أن يقال هذا من الجزيرة، وهذا من وادى النيل كأنهما إقليمان منفصلان. مرت بنفسى هذه الخواطر جميعاً، فأحببت أن أنبِّه الساسة الكبار والساسة الصغار وأبناء هذا الشعب إلى الخطر الداهم العظيم الذى تُخفيه هذه الأفكار الخاطئة، ولا أدرى كيف نقع فى هذا الخطأ الفظيع مع أن القرآن الكريم نبَّهنا إليه ولفت أنظارنا إلى ما فى هذه البقاع من خير وبركة وخصب ونماء، وأنها إنما أجدبت لانصرافنا عنها وإهمالنا إياها، فذلك قوله تعالى: "وّشّجّرّةْ تّخًرٍجٍ مٌن طٍورٌ سّيًنّاءّ تّنًبٍتٍ بٌالدٍَهًنٌ وّصٌبًغُ لٌَلآكٌلٌينّ"20(المؤمنون). إن سيناء المصرية تبلغ ثلاثة عشر مليوناً من الأفدنة؛ أى ضعف مساحة الأرض المنزرعة فى مصر، وقد كشفت البحوث الفنية فى هذه المساحات الواسعة أنواعاً من المعادن والكنوز فوق ما كان يتصوَّر الناس.. فمن واجب الحكومة إذن أن تعرف لسيناء قدرها وبركتها، ولا تدعها فريسة فى يد الشركات الأجنبية واللصوص والسرَّاق من اليهود.. وحرام بعد اليوم أن تظن الحكومة أو يتخيل أحد من الشعب أن سيناء «برية» قاحلة لا نبات فيها ولا ماء، فهى فلذة كبد هذا الوطن ومجاله الحيوى ومصدر الخير والبركة والثراء، ونرجو أن يكون ذلك كله بأيدينا لا بأيدى غيرنا». (موقع أمل الأمة فى 12 يونيه 2012م).. انتهى كلام البنا وكفى. [email protected]