تتيح النظرة الهندسية لمنظومة المجتمع تفصيص مختلف جزئياته لتركيبها على أسس سليمة ضماً لأجزاء وتقسيماً لأجزاء أخرى واستحداثاً لمنظومات فرعية وإلغاءً لغير النافع منها. فى وسط هذا العمل تبرز معايير تكوين تلك المنظومات الفرعية من هيئات حكومية وأهلية ووزارات ومؤسسات وشركات وغيرها من قطاعات الدولة الإنتاجية والخدمية والتى هى أيضاً إنتاجية بمفهوم التنمية، كما تبرز معايير العلاقات بين تلك القطاعات التى يشير المشهد السياسى الحالى إلى تشابكها بصورة غير منظومية. ويتبقى فى المشهد آليات قياس الأداء والرقابة الرسمية والشعبية ليلتحما معاً لصالح تنمية الوطن. القضية أكبر من أن تُحل بالنوايا الحسنة فالأمر لا يحتمل إلا حلولاً عملية لحالة الوطن حتى لا يفضى أى إصلاح مظهرى إلى عودة النظام القديم. قضية إصلاح على شموليتها ليست هدماً للنظام بل إصلاح له من خلال أضعف نقطة فيه وأكثرها تأثيراً وأعلاها مردوداً فى أقل فترة زمنية وهو أمر يبدو صعباً ولكنه ميسور لمن يبغى الإصلاح. يقول ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا الأسبق: المتشائم يرى فى كل فرصة صعوبة بينما يرى المتفائل فى كل صعوبة فرصة! وحين يتم لنا رسم خريطة قطاعات الوطن وعلاقاتها تتبقى قضية إدارة تلك المنظومة بصورة كفء من خلال اختيار قيادات تلك القطاعات. وبصرف النظر عن أسماء طاقم الرئاسة والوزراء يتساءل البعض عن معايير اختيار تلك الشخصيات. قد يكون التساؤل عند البعض ترفاً فى ظل ظروفنا السياسية الحالية ولكنه عند البعض الآخر أمر ضرورى ليس فقط من منطلق أن أمورنا قد تغيرت ولكن من منطلق أننا حتى نحقق التنمية المنشودة لابد من شفافية وحسن اختيار طاقم إدارة الدولة بعيداً عن الممارسات الحزبية الضيقة. أذكر أن اختيار المدعى العام الأمريكى قد استغرق عدة جلسات استماع فى المجلسين النيابيين الأمريكيين وهو أمر يتقرر فيه التصديق على اختيار الرئيس من عدمه. القضية تتعلق برؤية وفكر ومؤهلات وخبرة تصب فى متطلبات الوظيفة! أذكر هذا لأتساءل هل تم وضع متطلبات للوظائف المفصلية فى الدولة قبل وضع معايير لاختيار شاغليها؟ ألا يستحق الأمر عرض ترشيحات رئيس مجلس الوزراء على مجلس الشورى حيث هو المجلس التشريعى الوحيد القائم حالياً كى نتفادى تكرار مسلسل حكومات الثقة! قضية معايير اختيار القيادات قضية حساسة لا يمكن ضبطها بسهولة ولكنها كقضية رجل المرور الذى يفضل إيقاف إشارة المرور الآلية ليدير الموقف بخبرته التى تشهد شوارع القاهرة بنجاحها! الأمر لم يعد سهلاً خاصة مع غياب البيانات عن طاقات الأمة التى كانت تُغَيِّب تلك البيانات عمداً أو سهواً ولكننا لا نبحث عن المتوافر منها فى موسوعة الشخصيات المتميزة فى مصر وفى الموسوعات العالمية على سبيل المثال فهى تحوى بيانات تغافل عنها النظام السابق الذى يطل برأسه بصورة متعاظمة يوماً بعد يوم، حيث وصل الأمر بعد الانقطاع المتكرر للكهرباء أن قُطعت الكهرباء عن بعض استوديوهات الهواء فى مبنى الإذاعة والتليفزيون الأسبوع الماضى لمدة تزيد عن نصف ساعة فى سابقة لم تحدث منذ افتتاح المبنى عام 1960م. وأتساءل ألا يمكن لمنظومة يتغلغل أعضاؤها فى مختلف قطاعات الدولة أن ترشح الكفاءات التى يحتاجها الوطن من غير أعضائها أن انكفائها على ذاتها كما يشيع البعض أمر حقيقى؟ وأتساءل هل كان من متطلبات الوظيفة أن يكون الشخص قد خاض غمار العمل التطوعى الحزبى أو الاجتماعى على سبيل المثال؟ وهل إذا كان حال توليه أى مسئولية قد استخدم منتجاً محلياً؟ وهل قدم خلال تاريخه الوظيفى حلولاً غير تقليدية ساهمت فى الارتقاء بالمنظومة التى يعمل فيها؟ وهل كان مبدعاً فى مجال عمله؟ وهل فضَّل حل مشكلته الشخصية بالإعارة خارجياً لفترة طويلة على حساب المشاركة فى حل مشكلة الوطن؟ وهل ثبت من تاريخه عدم تحيزه ضد من لا ينتمى لجماعة معينة أو لحزب معين بل كان عادلاً مع الجميع؟ وهل فكر فى تحسين أحوال المنظومة التى أدارها مادياً ومعنوياً؟ وكيف واجه عقبات ذلك؟ وهل كانت له رؤية فى عمله؟ أخشى أن تكون نظافة اليد بالمعيار القديم؛ والتى كان يتقاضى فيها البعض ما يقارب المليون جنيه شهرياً بصورة رسمية وهو ما يماثل أكثر من ألف مرة الحد الأدنى للدخل الذى يراد إقراره؛ هى وحدها المعيار. وقفزاً على كل المعطيات يمكن حل قضية إدارة الدولة بسهولة بتجاهل الأمر برمته بأن نختار أهل الثقة لنعيد استنساخ الدولة القديمة وهو ما يُدخلنا فى دوامة التجارب وانتظار الحظ عله يجود بما نحلم به ولم نبذل فيه ما يستحق من عناء! أتمنى أن تكون تلك المعايير أو غيرها قد تم أخذها فى الاعتبار عسانا ألا نصل ليوم نتذكر فيه جميعاً قول أم المعتمد أبو عبد الله الصغير آخر ملوك غرناطة بالأندلس: ابكِ كالنساء ملكاً لم تحافظ عليه كالرجال! الفرصة لا تأتى مرتين، فلنغتنم فرصة التنمية لنضع الأمة جميعها فى مرحلة الانطلاق! أ.د. محمد يونس الحملاوى أستاذ هندسة الحاسبات، كلية الهندسة، جامعة الأزهر [email protected]