حين ننظر إلى المشهد السياسى الحالى تقفز إلى الذهن مسرحية مصرع كليوباترا لأمير الشعراء أحمد شوقى ونتذكر وصفه لمجتمع كاد أن يفقد وعيه، حيث يردد ما يُسمعه إياه الإعلام ويحركه اللاوعى، يقول شوقى: اسمع الشعب ديون كيف يوحون إليه، ملأ الجو هتافاً بحياة قاتليه، أثر البهتان فيه وانطلى الزور عليه، يا له من ببغاء عقله فى أذنيه، يخيل إلى المرء أن ما نسمعه ونشاهده هو الحقيقة ولكن الأمر وللأسف مختلف عن ذلك، حيث الحقيقة كامنة لا تفصح عن نفسها إلا لمن يحاول سبر أغوارها، ولأن من يتصدرون الساحة يحجم أغلبهم عن صدارة الموقف الوطنى إما جبنًا أو مشاركة فى إفساد الوعى العام أو استسلامًا لليأس، والأخير غالبًا ما يكون الأقرب للصواب بالنسبة لعامة الناس، الحرب النفسية هى مفتاح النصر فى العديد من المعارك؛ لأن أحد الفرقاء يحصل بها على 50% من أرض الخصم قبل أن تبدأ المعركة! حين تستسلم فى داخلك فثق أنك خاسر! ألا ترى أن الآليات والفكر القديم مازال مستمرًا على جانبى الصورة، مما يتيح الوقت للنظام السابق ليحصن نفسه ضد التغيير وليغير من آلياته وليس من أهدافه المعلنة، وما كان لتلك السياسة أن تحقق أى نجاح ضد إرادة الشعب إلا بالتخاذل والقناعة السلبية للبعض وباللهث خلف الحقوق والتغافل عن الواجبات. منذ أيام صدر حكم طال انتظاره على مبارك ونجليه وآخرين صادمًا مشاعر الغالبية كاشفًا عن وجود خلل فى منظومة العدل، والتى تبدأ بتجميع البيانات وتحليلها وتنتهى بحكم المحكمة، مشيرًا بداهة إلى وجوب تطهير تلك المنظومة وإن رأى البعض أن يكون تطهيرها من داخلها! الحكم جاء أيضًا كاشفًا لانتهازية المدافعين عن حقوق الإنسان بتخاذلهم عن إدارة كفة الدفاع عن المدعين ومنهم الدولة ممثلة فى النيابة العامة! ورغم أننى توقعت ألا يصدر الحكم فى هذا التوقيت بالذات؛ حتى لا تضاف جوانب أخرى للمشهد السياسى الحالى إلا أن صدوره جاء كاشفًا لبعض جوانب المشهد مما سهل على الناخبين مقارنة مرشحى الإعادة، تمامًا مثلما تساقطت فى السنة والثلث الماضية أقنعة كثيرين ممن قفزوا على المشهد بتخاذلهم عن فعل أى شىء أو بمشاركتهم فى استكمال منظومة الفساد! لقد كان قانون الغدر لعام 1952م وتعديلاته كفيلا بتطهير المسرح من اللاعبين الذين أفسدوا الحياة المصرية بكامل جوانبها، ولكن حين نُعلى المصلحة على المبدأ فالنتيجة هى ما نحياه من استمرار النظام السابق بوجوه جديدة. عودة إلى المشهد السياسى، الذى يُعرف فيه الانتهازى من الوطنى علينا ألا نفقد البوصلة لنبصر طريقنا ونلفظ الانتهازى بل ونلفظ مبدأ الانتهازية! وعلينا أن نشد الرحال إلى جولة الحق متسلحين بنظر ثاقب لنبصر خطوتنا التالية لتسير قافلة الوطن تجاه موقع يستحقه، ببصيرة لا تعرف التحيز تبصر الأهم والمهم وتبرمج جولات الصراع حسب أهميتها وتبصر الفرق بين من استحوذ على السلطة طيلة عشرات السنين وآخر نخاف منه أن يستحوذ على السلطة! ولنتساءل متى تولى هذا (المتَخَوف منه) السلطة ثم استحوذ عليها؟ بل متى تولى (المُتَخَوف منه) السلطة اطلاقاً؟ وأظن الإجابة واضحة ولا تحتاج إلى الاستعانة بصديق! ورغم الأداء السىء والذى هو دون مستوى التوقع من مجلس الشعب إلا أنه يدخل فى عداد التجارب التى علينا أن نتعلم منها. ونحن نُقَيِّم الأمر لا نتناسى أن ما صدر من مجلس الشعب أقل من طموحاتنا جميعاً، كما أنه أقل مما أمَّل به من قالوا نعم للتعديلات الدستورية، وهم أكثر من ثلاثة أرباع الشعب، ولعل هذا يجيب عن سبب نتيجة المرحلة الأولى من انتخابات الرئاسة! نعم هناك أخطاء وسقطات شنيعة وغير مبررة وغير حقيقية وغير عادلة بأى حال من الأحوال ولا يمكن قبولها فى سلوك أعضاء مجلس الشعب، ولكن هل الموقف الآن فى الاصطفاف مع النظام القديم بما فعله ومازال يفعله أو مع آخر يدعى أنه سيلتزم العدل فى عمله؟ الاختيار بين ظالم وآخر يدعى العدل؟ فأيهما نختار؟ لم أقل عادل ولكننى أكرر يدعى العدل فهل نجربه؟ يستحضرنى تشبيه لبعض الزملاء: أمامنا طريقان لا ثالث لهما، وكلاهما مر، إما القذف بأنفسنا فى النار وإما القذف بأنفسنا فى الماء ونحن لا نعرف (ولا أقول نُجيد) السباحة، فأيهما سنختار؟ علينا أن نعى أبعاد القضية ونحلل الموقف ونُبَصِّر الآخرين بحقيقة الموقف وهو موقف للجميع، فما بال النخبة يتقاعسون وينتظرون أن يقتطعوا جزءًا من كعكة الوطن متناسيين أن الوطن غير قابل للتجزئة رغم التجييش الطائفى والدينى والعرقى الذى يملأ المشهد من كلا الطرفين؟ الوطنية ليست صفقات يجنيها متعصبى بعض راسبى الجولة الأولى. ولا يسعنى إلا أن أشير بالاحترام لمن يضيف لمشهد الوطن والذى فهم ظرف الوقت دون مفاوضات أو حسابات سياسية وبلا ابتزاز سياسى. فى مسلسل تساقط الأقنعة المستمر نكتشف أن المواقف لحظات تكشف معادن الرجال، مثلما تكشفها الشدائد. اللحظة فارقة فى مسيرة الوطن، بل وفى مسيرة أمتنا كلها يحاول البعض فيها القفز على الوطن ذاته بالتجييش الطائفى وبالرشاوى الانتخابية وبإصدار قرارات وإعلانات تؤثر فى مسيرة الانتخابات وما بعدها، قفزاً على مفهوم الديمقراطية، فى انقلاب ناعم أو صادم. صوب الصندوق علينا الاختيار (كما قال شيخ المجاهدين عمر المختار: ننتصر أو نموت) لا الوقوف بين موقفين.. يقول داعية حقوق الإنسان الأمريكى، مارتن لوثر كنج، أسوأ مكان فى الجحيم محجوز لهؤلاء الذين يبقون على الحياد فى أوقات المعارك الأخلاقية العظيمة. أستاذ هندسة الحاسبات، كلية الهندسة، جامعة الأزهر [email protected]