تعاقب على وزارة التعليم العالى عدة وزراء ولم نسمع عن خطة حقيقية واضحة المعالم لإصلاح التعليم الجامعى. ولم نحاسِب أى وزير على ما أفسده فى الجامعات لغياب خطط ورؤية للعمل لنحاسبه على أساسها! قضايانا أساساً تتلخص فى غياب معايير اختيار شاغلى المناصب الإدارية والوزارية وربط المنصب بامتيازات مبهمة. ولنتساءل لماذا يختلف مجمل ما يتقاضاه الأستاذ حال تقلده وظيفة عميد أو رئيس جامعة أو وزير عن مرتبه كأستاذ قبل تقلده المنصب؟ وقبل هذا لماذا لا يوجد مرتب محدد لكل درجة علمية تتيح لشاغلها حياة كريمة ونمتنع عن أية إضافات أو مزايا عينية أو نقدية تتاح لشاغلها سوى مرتبه المُعلَن؟! أنتوهم أننا بذلك لن نجد وزراء أو عمداء أو رؤساء جامعات؟ القضية قضية جودة حقيقية. أيمكننا الوصول إلى حالة يكون فيها عضو هيئة التدريس مسئولاً عن جودة خريجيه ونحاسبه إن أخطأ ذلك الخريج حال تخرجه؟! الجامعات مصانع للرجال فكيف لهذه المصانع أن تنتج سلعاً ذات كفاءة متدنية تضر المجتمع وبلا فترة ضمان؟! من لا يتقن مهنته من خريجى الهندسة والطب والحقوق وغيرهم يضرون المجتمع. المسئولية لا تقع على الخريج وحده بل تقع أيضاً على معلمه فى سلسلة متكاملة فى كل مرحلة تعليمية تنتهى بتخرجه منها. وفى الجامعة تبدأ السلسلة بقبول طالب (يستحق أو لا يستحق) تنتهى بقذفه لسوق العمل غالباً بمهارة لا يتقنها من خلال منظومة غير فاعلة ثم نلوم المجتمع الذى تساهم الجامعة فى تخلفه! ولننظر إلى الفاقد فى وقت هؤلاء الشباب لنرى كفاءة المنظومة وكيف نهدر جهد الوطن ووقته. الجامعات ليست نوادى اجتماعية تمتص وقت مرتاديها، بل باتت مؤسسات إنتاجية فاعلة فى مختلف دول العالم يتم من خلالها تربية طلبتها وأساتذتها علمياً وقيمياً وأخلاقياً وسياسياً. منظومة التعليم الجامعى تحتاج إلى إعادة تصميم ولا يجدى معها المسكنات، وبات على وزير التعليم العالى أن يضع خطة للتطوير لا لتسكين ألمها الجزئى عن طريق الصدقات وأموال الزكاة! الجامعة قاطرة المجتمع الحقيقية وبدونها لا ينصلح أى مجتمع. لقد مللنا من أن الجامعة للمستقبل وآن لنا أن ننظر إليها على أنها إضافة آنية ومستقبلية فى نفس الوقت. كثيرون عندما تفاجئهم مشكلة (وبالطبع كل مشاكلنا مفاجئات لأننا لم ندرس كيف نتعامل بالتخطيط مع المستقبليات) ينظرون إلى طرف آخر يلومونه ثم ينظرون إلى طرف آخر يحل لهم المشكلة ثم ثم ينظرون إلى طرف أخير فى أنفسهم ليحل المشكلة وغالباً لا يظهر الطرف الأخير إلا بعد تفاقم الأمر! ولم يتصدْ أساتذة علم الاجتماع لتلك القضية رغم شيوعها، ولا أدرى لماذا؟ المهم أنه بات علينا جميعاً واجباً مجتمعياً هو اقتراح الحلول علَّ النخبة الحاكمة (!) ترى فيها ما يمكن الاستفادة منها! وأول تلك الحلول تعظيم ما بأيدينا وتقليل فاقده ومن أمثلته إنشاء وحدات بحثية إنتاجية فى الجامعات (بقواعد أمينة) وبناء القدرات الذاتية فى الجامعة عن طريق بناء معامل كليات الهندسة مثلاً، وعلى الجانب السالب العمل على تقليص إهدار الأجهزة والمعدات وإعادة تدويرها بل وتطويرها. وتتداعى سلسلة الحلول لنتصدى للدروس الخصوصية فى الجامعات ولنلغى التمييز فى الكلية الواحدة بين الطلبة بحجة زيادة دخل أعضاء هيئة التدريس وهو بالحقيقة هدم لمقدرات الأمة والجامعة فى ذات الوقت، بل إن شئت قل أنه بلطجة فكرية ووأد لقيم المجتمع! أسهل الأمور أن تتسول ثم أن تقترض وتستمر السلسلة إلى منتهاها لتجد أصعبها وأكفأها فى ذات الوقت أن تعمل بيديك. المهم أين بوصلة تفكيرك؟ حين تبدأ بالأدنى والأسهل فلن تصل إلا إلى دون المتوقع على عكس البدء بالأعظم فهو دافع لاكتمال البناء. يقول المتنبى: إذا غامَرْتَ فى شَرَفٍ مَرُومِ:: فَلا تَقنَعْ بما دونَ النّجومِ فطَعْمُ المَوْتِ فى أمْرٍ حَقِير:: كطَعْمِ المَوْتِ فى أمْرٍ عَظيمِ ولننظر إلى المشهد السياسى لنرى كيف يمكننا بناء الوطن، فى كل وزارة وفى كل موقع. يتطلب الأمر إعلان الحكومة لخطتها أمام الشعب. حكومة إنقاذ وطنى عليها وعلى وزرائها جميعاً طرح الرؤية والحلول والاستماع لا إلى الفلول أو نخبة ما بعد 25 يناير بل إلى كل وطنى حارب الفساد فى موقعه قبل ذلك التاريخ منعاً للمتنطعين وواهمى الوطنية! هؤلاء الشرفاء عليهم أن يدلوا برأيهم فى معترك الحياة، فما المَخرج بعد حكومة إنقاذ إن لم نبذل جميعاً جهداً لإنقاذ الوطن معها شريطة أن نشعر بقدرتها ونقتنع بنهجها وخطتها؟! مازالت كلمات المتنبى الذى عاش منذ أكثر من ألف عام تتردد فى أذنى. يرَى الجُبَناءُ أنّ العَجزَ عَقْلٌ:: وتِلكَ خَديعَةُ الطّبعِ اللّئيمِ وكلّ شَجاعَةٍ في المَرْءِ تُغني:: ولا مِثلَ الشّجاعَةِ في الحَكيمِ وكمْ من عائِبٍ قوْلاً صَحيحاً:: وآفَتُهُ مِنَ الفَهْمِ السّقيمِ ولكِنْ تأخُذُ الآذانُ مِنْهُ:: على قَدَرِ القَرائحِ والعُلُومِ المنصب العام أمانة وعطاء وليس مغنماً ووجاهةً حتى وإن كان المغنم بالقانون الذى وضعه مفسدون نريد تطهير المجتمع منهم ومنه. ولنلخص الأمر فى تساؤل ساذج: أيقبل كل من يتقلد منصباً وزارياً وأولهم وزير التعليم العالى؛ ونحن هنا نتحدث عن الجامعة؛ أن يكون مجمل ما يتقاضاه معالى الوزير مماثل لمجمل دخل أستاذ فى مثل سنه فى الجامعة؟ إن قبل بهذا فلا تخشى على الوطن وإلا...! هلا نظرنا إلى ما ائتمننا المجتمع عليه من قيم وأخلاق وتنمية لنصبها فيه مرة أخرى حضارة وريادة وتقدم! [email protected] أستاذ هندسة الحاسبات، كلية الهندسة، جامعة الأزهر