عرفت بعض البلدان النامية والمتخلفة عددًا من الانقلابات العسكرية، كان القائمون بها يصفونها دائمًا بأنها "ثورة"، مما لفت أنظار عدد من المراقبين والباحثين، من حيث اختصاص مثل هذه البلدان بانقلابات عسكرية ، وكان حسن الظن يرى أن هذه البلدان، إذ تعيش تخلفًا وضعفًا عامًا، وغيابًا للمؤسسات المجتمعية القوية، فضلاً عن أمية موغلة، وتراجع فى المستويات الثقافية العامة، يجد بعض أفراد القوات المسلحة فى هذا البلد أو ذاك أن القوة المسلحة التى يملكونها يمكن أن تتيح لهم مخرجًا للانقلاب على السلطة التى تساند التخلف القائم، وتمارس صورًا متعددة من القهر والفساد، فضلاً عن التبعية للقوى الخارجية المهيمنة. وعندما يتم المراد للعسكر، ويعلنون تسلمهم للسلطة، ينتقلون بذلك من دائرة بعينها، تم إعدادهم لها، بمناخ مناسب، وطرق معيشة، وأساليب تفكير، وصور تعامل مع الغير، مما تتطلَّبه الحياة العسكرية، إلى حياة سياسية مغايرة إلى حد كبير. دائمًا ما نجد البيان الأول والثانى والثالث يؤكد أهداف الانقلاب (الثورة) التى تدور حول رفع الظلم، وإطلاق الحريات، والامتثال لقيم الديمقراطية، والسير الحثيث نحو تنمية متوازنة وعدل اجتماعى .. إلى غير هذا وذاك من مفردات يتسق بعضها مع بعض. ويُتبعون هذا بأن تقلدهم للسلطة ليس هدفًا لهم، وإنما هى فترة مؤقتة، حتى تقف البلاد على أقدامها، ويعودوا إلى ثكناتهم، ويسلموا السلطة إلى قيادة مدنية. ولأن التغيير جاء بانقلاب، وبالقوة، فلا بد أن يكون هناك معادون، ومتربصون، بل جهود مضادة لإفشال الانقلاب (الثورة) ... هنا يجد القائمون بالانقلاب أنفسهم أمام ضرورة اتخاذ عدد من الإجراءات الاستثنائية لمحاصرة أعداء الانقلاب، وخاصة إذا اتخذ أصحاب الانقلاب موقفًا معاديًا لقُوَى هيمنة كبرى، وتتكاثر، وتتعدد شيئًا فشيئًا الإجراءات المضادة للديمقراطية، والتى يزعمون أنها إنما لحمايتها، بينما القاعدة العِلمية والتاريخية تؤكد أن الشوك لا ينتج عنبًا، ومن المستحيل أن تنتج الإجراءات الاستبدادية إلا مزيدًا من الظلم والقهر، وأن ما تتعرَّض له الممارسة الديمقراطية من عَثرات، مهما زادت، لا علاج للأمر إلا بمزيد من الديمقراطية. وهكذا يختفى الوعد بالعودة إلى الثكنات تدريجيًّا، حيث تترافق متغيرات أخرى، تتصل بمظاهر السلطة الجديدة، والتعوُّد عليها، بحيث يصبح من المستحيل ترْكها والعودة إلى الثكنات، باستثناء حالة وحيدة فى التاريخ العربى، هى حالة "سوار الذهب" فى السودان، أواسط الثمانينيات، مما دفعنى - وقتها - إلى أن أكتب مقالاً بعُنوان "حمدًا لله .. خابت ظنونى" ، حيث كنت قد كتبت قبل ذلك مقالاً يسخر من وعده بألا تزيد فترة الانتقال عن عام، يعود بعدها إلى قواعده العسكرية، إذ أن الرجل هو العسكرى الوحيد الذى "صدق وعده" ! وكان الوطن العربى مسرحًا واسعًا لهذه النوعية من الانقلابات، كان أولها على الأرض السورية، عقب هزيمة فلسطين عام 1948، ليتكرر بعد ذلك عدة مرات، آخرها انقلاب حافظ الأسد عام 1971، ومصر عام 1952، وما حدث فى العراق، والسودان، واليمن، والجزائر، وليبيا.. وتنفرد مِصر بظروف خاصة، جعل تقييم انقلاب، أو ثورة 1952، يختلف من شخص لآخر، حيث يرتفع بها البعض إلى عَنان السماء، مستندًا فى ذلك إلى معارك خاضتها ضد الإمبريالية العالمية، ومساعدة قوى التحرير فى الوطن العربى، فضلاً عن تكسير عظام قوى الإقطاع فى الداخل، والارتفاع بأحوال شرائح اجتماعية فقيرة، وإقامة قاعدة صناعية، ساعدت على قدر من الاعتماد على الذات لمواجهة قوى الإمبريالية. وكاتب هذه السطور، إذ يسلم بكل هذا، ويحمل من ثَمَّ الكثير من التقدير والاحترام لهذه الخطوات، لكننا هنا معنيين بالوجه الآخر من القمر الذى يتصل بالديمقراطية... وهو الوجه المظلم بالفعل.. لم يطق العسكر وجود تكتلات سياسية أخرى غيرهم، فحلوا الأحزاب التى كانت قائمة، بعد شهور معدودة، بحُجج مختلفة، ليس هنا مكان تفنيدها، فحُرمت الحياة السياسية طوال عهد الثورة من مشاهد تقوم على تداول السلطة والتعددية، واختلاف الآراء، دون أن يقع الطرف المخالف فى جُبّ الاتهام بالعداوة للثورة والعمالة للخارج. لم يدرِ العسكر أن ما أحسنوا فعله على مستويات المواجهة مع الاستعمار والصهيونية، ورفع مستوى المعيشة والعدل الاجتماعى، إذا كان قد ساعد على تحرير الوطن، لكن الإجراءات المضادة للديمقراطية، فعلت العكس بالنسبة لتحرير المواطن، ولا قيام - فى نظرنا - لتحرير وطن، دون أن يقوم على تحرير المواطن. بدأ الانحراف الشديد عن الطريق الديمقراطى منذ ما عُرف بأزمة مارس 1954، حيث أُعلنت وعود بالعودة إلى الثكنات، والسماح بحرية تكوين الأحزاب، وغير هذا وذاك من خطوات ديمقراطية، تبين أنها كانت وعود "تخدير" ، وليست وعود تنفيذ. وكانت القوة السياسية الكبرى على الساحة الشعبية هى قوة الإخوان المسلمين، لكن، لأن عبد الناصر كان يخوض صراعًا مع محمد نجيب، فقد آثَر مهادنة الإخوان، فصلَّى وراء إمام منهم، وذهب زائرًا مترحِّمًا إلى قبر حسن البنا، وأعاد الجماعة التى كان قد أعلن حلها قبل ذلك.. وبلع الإخوان، مع الأسف، الطُّعم، إلى أن استطاع عبد الناصر أن يزيح محمد نجيب، فالتفت إليهم ليوجه إليهم ضرباته المعروفة، بعد أن تراجع عن وعود مارس الديمقراطية. ووُضع كُتاب كبار ومفكرون داخل السجن؛ لأنهم صدقوا الانفراجة المصطنعة للحريات فى مارس، وكان أبرزهم إحسان عبد القدوس، الذى كان قد كتب "الجمعية السرية التى تحكم مصر"، فقد كانت لأكبر معقِل صحفى المتمثل فى صحيفة "المِصرى" واضطرار رئيس تحريرها أحمد أبو الفتح للهرب إلى الخارج، وكان صديقًا شخصيًّا لعبد الناصر، وهو الذى سرَّب إليه نية النظام الملكى فى القبض على الضباط الأحرار، مما ساعدهم على التبكير بالانقلاب، ونجاحهم فى ذلك. وتم فصل عشرات من أعظم أساتذة الجامعات؛ لأنهم أيضًا صدقوا الوعود، فمارسوا حرية تعبير لأول وآخر مرة.. ثم بدأ المسار الملعون فى تشكيل تنظيم سياسى واحد، من هيئة تحرير، إلى اتحاد قومى، إلى اتحاد اشتراكى، ويجد كل مصرى نفسه بالضرورة والإجبار، مصبوبًا فى قالب حديدى بعينه، لا يجرؤ على الفكاك منه ، وإلا عُومل باعتباره من أعداء الثورة، وخائنًا للوطن، والانصياع التام لما تراه السلطة، وعلى رأسها صاحبها والمنفرد بها، بعد أن أخذ زملاؤه فى الاختفاء واحدًا بعد آخر. وتجىء ضربة أخرى ضخمة للديمقراطية بتأميم الصحافة عام 1960، والتى حاول "هيكل" أن يزينها بتسمية قانونها بقانون "تنظيم الصحافة"، تمامًا ، كما سمى هزيمة يونيو 1967 بنكسة !! منذ ذلك الوقت، عرفت الصحافة الطريق إلى أن يتحول الصحفيون إلى أبواق للحاكم، مطلوب منهم أن يشرحوا آراءه، ويزينوا ما يتخذه من قرارات، ويبرروا أى خُطوة من خطواته، خاصة أنه هو الذى يعين رؤساء التحرير والقيادات الصحفية، وينقلهم من مكان إلى آخر، أو يفصلهم. وسرى نهج "المسايرة" لا "المغايرة"؛ ليطبع العقل الصحفى بطابع التبعية الذليلة، وإخماد الأفكار المغايرة، وعادات وتقاليد التزلف للسلطة، ومحاولة كسب وُدها، ولا بأس من الدس للزملاء، الذين قد يكونون مرشحين للصعود، وتصبح معايير اللمعان والشهرة والصعود، تدور حول النفاق، وطأطأة الرؤوس، ومخادعة الغير، وإلغاء أو إضعاف الشعور بالتقدير الذاتى للمواهب الشخصية.. أما أجهزة الاستخبارات وما فعلته وروجت له من ترويع وتعذيب وافتراء، فالحديث عنها يطول، والروايات عنها شهيرة، لعل أبرعها حقًّا ما كتبه نجيب محفوظ فى روايته "الكرنك" ، خاصة مع تجسيدها ببراعة شديدة فى فيلم سينمائى. وإذا كان السادات، ابن المؤسسة العسكرية، قد أعلن كذا وكذا من الإعلانات الديمقراطية، يتصدَّرُها مشهد إحراقه لشرائط التنصُّت والتسجيل للمكالمات الهاتفية لكل الأطراف السياسية التى كانت قائمة، فإنه ما لبث أن طارد وضيَّق على مَن يغايرونه فى الرأى، بعد أن صدقه كثيرون، فى رغبته فى توسيع دائرة الديمقراطية بالسماح بإعلان تنظيمات "كرتونية" هشَّة، باسم المنابر ، ثم الأحزاب الشكلية. ولم يكن السماح لتيارات إسلامية ببعض حرية الحركة إيمانًا منه بالديمقراطية، بقدر ما كانت لُعبة مكشوفة، من حيث استخدام هؤلاء فى محاربة خصومه الناصريين واليساريين؛ لينتهى الأمر بوضع الجميع فى السجن ، وفق قرار سبتمبر الشهير عام 1981. أما ما حدث، خلال حكم مبارك، الابن الثالث للمؤسسة العسكرية فى حكم مصر، فأمره معروف ومشهور، حيث فجَّر نهجه القهرى الفاسد ثورة يناير؛ لنتصور أننا أمام نهاية ديكتاتورية العسكر، فهل كان تصوُّرنا حقيقيًّا؟!