محمد عبدالفتاح مدير المدرسة الإعدادية بنين بالصنافين شرقية .. شاب فى منتصف الأربعينات من العمر.. دمس الخلق .. هادىء الطباع .. متفجر الطاقات .. تبدو الإستقامة بالنسبة لاستمراره على قيد الحياة كالماء للأسماك ..إن أخرج السمك منها مات. .. تقلد منصبه كمدير للمدرسة فى العام الدراسى المنصرم.. فتحكمت أخلاقه المكتسبة عن طريق نشأته فى بيت مبنيى على القيم الفطرية وحب الخير وعدم الميول للنفاق والتملق .. فى رسم الخطة الجديدة لإستعادة مثاليات الزمن القديم فى الإدارة .. إن أردتمونى لهذا المنصب فعلينا تحمل ألام العملية الدقيقة لإصلاح ماأفسده الدهر: كانت تلك الكلمات موجهة من مدرس التربية الرياضية لزملائه من المدرسين. كم من مرة مررت على المدرسة الإعدادية فى قريتى عبر الخمس عشرة سنة الأخيرة , أنا –كاتب تلك السطور- كمواطن لى أبناء من المفترض أن يلتحقوا ذات يوم بتلك المدرسة,.. لأعود بعدها الى بيتى أبكى الوطن.. أترحم على السنوات التى قضيتها فى المرحلة الإعدادية قبل أربعين عاما .. أترحم على مدرسى ذلك الزمان .. أترحم على طبيعة العلاقة بين المعلم والتلميذ .. وبين التلميذ والمدرسة كمبنا له قدسيته. .. لم تكن شواهد المحنة التى تمر بها العملية التعليمية عموما والمدرسة الإعدادية خصوصا.. من صور الهروب الجماعى اليومى للتلاميذ .. وكذا سماع الضجيج والأصوات المرتفعة تنبعث من المدرسة طيلة اليوم الدراسى فضلا عن حالات العنف البينيى .. وحالات الغش المعروفة كحق مكتسب نتيجة فشل المنظومة التعليمية فى مصر,, لم يكن ذلك كله يتفق مع الضمير الخاص الذى تربى عليه ذلك المدير الشاب الجديد. ما ألمنى من تحول التلاميذ بشكل مذهل فى عدم الأداء وعدم الإلتزام والرغبة فى تحصيل العلم وعدم الإرتقاء للمستوى الوطنى المطلوب.. ألمه بالتأكيد .. لذا قبل المهمة ولكن بشروطه الدينية والوطنية والأخلاقية. إستعمل كل تلك الأدوات الفطرية , والتى إن غابت عن إمرء ما أفادته علوم الأرض نفعا .. فالقيم والأخلاق والضمير اليقظ لايمكن الحصول عليهم عن طريق الشهادات أو المحاضرات الجامعية. ذهبت فى زيارة للمدرسة .. أول ما أدهشنى هو قضائى قرابة الساعة دون أن أستمع إلى ضجيج ينبعث من جنبات المدرسة. سألت عن السبب: هل التلاميذ غائبون؟ ماهذا الشيء الغريب الذى لم نألفه عبر السنين الأخيرة لدرجة أصابتنا باليأس من مجرد تفكير بعض أولياء الأمور فى الحاق أبنائهم بتلك المدرسة. ولابد من ذكر أن هذه الحالة لم تكن مقتصرة فقط على تلك المدرسة فى الماضى ولكنها كانت حالة شبه عامة تتسم بها كثير من مدارس مصر. بداية يومه الدراسى تبدأ بإشرافه الشخصى على طابور الصباح .. فكان كالأسد بين التلاميذ .. قادنى فى جولة سريعة بين الفصول وبين الطوابق المتعددة .. كان يقفز على درجات السلم كأن الحياة ستنتهى فى ذلك اليوم وكأنه يخشى أن تكون الأيام والسنين القادمة غير كافية لتحقيق حلمه لمجتمعه .. كان يقفز وكأنه يسارع الزمن .. كان يتحرك ولسان حاله: (الحياة مهما طالت قصيرة). محمد عبدالفتاح أعاد لى ذاكرة الماضى الغالى العزيز الذى سمح لأبناء جيلى الأستمتاع به. فقد تمكن جيلنا فى المرحلة الإبتدائية من اللحاق بأخر عربة من عربات القطار الذى مثل قيم الماضى الجميل, بخلقه وعلمه,, بسلمه وابداعه ,, بدفئه وشاعريته,, بحزمه وسلاسته .... كنا نعيش أواخر تلك الأيام التى كان فيها مدير المدرسة يمثل قيما عليا .. كان يصل الى مقرعمله فى المدرسة على ظهر دابة فكنت تستشعر مهابته واستقامته..حتى دابته كنت تستشعر أنها ليست ككل الدواب .. وكان زيه الرسمى ورابطة عنقه يضفيان مزيدا من الإحساس بجدية تلك الوظيفة التى تؤسس لخلق مجتمع العلم والعدل. فما من أمة من أمم الأرض التى تعيش تقدما حقيقيا إلا وتجد أن نهضتها قد تأسست على قاعدتين وهما العلم والعدل. وتستمتع بتفاصيل ذلك المشهد من هذا الماضى الجميل عندما يكتمل رسم صورة للمشهد .. فتجد أن ناظر المدرسة ذلك القادم على ظهر دابة .. قد حطت دابته رحالها فى مبنى مدرسى أنشأ من الطوب اللبن ...والتقى بمدرسين كانوا يصلون الى المدرسة قبل التلاميذ بوقت كاف كى يكتبوا موضوع الدرس على السبورة قبل بداية الحصة الدراسية حتى يستثمروا كل المدة الزمنية للحصة فى شرح الدرس التلميذ. فكان المنتج متطابقا: تلميذ مكتمل الهندام على الرغم من بداوة الحياة وعدم توفر المادة .. فلا يبصق على الأرض .. خفيض الصوت .. يتكلم من غير إسفاف .. يبتسم ..ولايشتم ..ويخجل إذا لزم الأمر لأنه حييى. كان منتجا صناعة محلية خالصة .. تجده يدرس فى التخصص العلمى ولكنه يجيد قواعد اللغة وصرفها كما لو أنه قد أتم دراسة جامعية فى الصرف والنحو .. كان طبيبا ولكنه كان يقرض الشعر.. كان مهندسا ولكنه كان عمل بالصحافة ككثير من عمالقتها .. فجلال الحمامصى كان مهندسا ولكنه عمل بالصحافة فكان من أبرز رجالاتها فى القرن العشرين. مصر فى حاجة ماسة لشخصية محمد عبدالفتاح فى كل موقع وليس فقط فى إدارة المدرسة. هشام الشحات [email protected] Attachments area