أحمد أيوب: الأكاديمية الوطنية نقطة فارقة فى تأهيل القيادات التنفيذية    إدارة الأزمات والتداخلات العاجلةب " الجبهة ": تناقش سيناريوهات الوقاية ومواجهة التحديات    11 قرارًا جديدًا لمجلس الوزراء.. تعرف عليها    ألف جنيه انخفاضا في سعر الأرز للطن خلال أسبوع.. الشعبة توضح السبب    الرئيس السيسي يتابع مستجدات مبادرة الرواد الرقميون ويوجه بدراسة سبل توسيع قاعدة المستفيدين    محافظ المنوفية: الأرض الزراعية خط أحمر.. وإزالة فورية لتعديات على مساحة 175 مترا    مجلس الوزراء يستعرض مشروعات الوصول بالطاقات المتجددة إلى نسبة 30% حتى عام 2030    الاتحاد الأوروبي: يجب عدم تسييس أو عسكرة المساعدات الإنسانية إلى غزة    بعد مباحثاته في موسكو.. فيدان يزور أوكرانيا الخميس    مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية يجري زيارة إلى كييف وروسيا الأيام المقبلة    كوريا الشمالية تهاجم قبة ترامب الذهبية وتتعهد ب"تناسق القوة"    ماكرون: مؤتمر حل الدولتين بنيويورك سيشكل زخما للاعتراف بدولة فلسطين    محمد اليماني لمصراوي: "الأهلي سيفوز بالدوري وبيراميدز بدوري أبطال أفريقيا"    هل ينتقل رونالدو إلى الهلال ب"عقد قصير الأمد"؟    «أعظم اللاعبين على الإطلاق».. رابطة محترفي الاسكواش تتغنى ب علي فرج    الكشف عن تفاصيل عقد دى بروين مع نابولي    وزير الشباب يقرر تعديل اللائحة المالية للهيئات الرياضية    «اشربوه مصانش نادية».. رسائل نارية من جمال عبدالحميد لمسؤولي الأهلي بسبب زيزو    النيابة: حفيدك يقول إنك كبرت بالسن ولا تعرفي الإدارة.. نوال الدجوي: «عاوزين يخدوا فلوسي»    حملات أمنية لضبط متجري المخدرات والأسلحة والهاربين من تنفيذ الأحكام    دار الإفتاء المصرية تعلن رؤية هلال شهر ذي الحجة لعام 1446 ه    رصاص تحت الدائري.. قرار من الجنايات بشأن محاكمة "الغنتوري"    اليوم.. عادل عوض يناقش سينما سبيلبرج في مهرجان القاهرة للسينما الفرنكوفونية    «تقدير الجمهور أغلى جائزة».. مي عمر تعلق على فوزها ب أفضل ممثلة عن «إش إش»    تشييع جثمان والدة المخرج خالد الحجر    المسلماني في منتدى دبي : ثقافة الترند مصدر تهديد للأمن القومي    حكم صيام الأيام الثمانية الأولى من ذى الحجة.. دار الإفتاء تجيب    «بيت الزكاة والصدقات» يصرف 500 جنيه إضافية لمستحقي الإعانة الشهرية غدًا الخميس    في أول أيام الشهر.. تعرف على أفضل الأعمال في العشر الأوائل من ذي الحجة    حكم صلاة الجمعة إذا جاء العيد يوم جمعة.. الإفتاء توضح الرأي الشرعي    فريق طبي بمستشفى العجمي بالإسكندرية يُنقذ حياة مريض بعد طعنة نافذة في الصدر    نائب وزير الصحة تشارك فى جلسة نقاشية حول "الاستثمار فى صحة المرأة"    متحدث «الصحة»: بعثة مع الحجاج المصريين لتقديم الرعاية الطبية    تفاصيل الاحتفال بتخريج دفعة جديدة من "حقوق السوربون" بجامعة القاهرة    بالصور- إقبال على المراجعات النهائية لطلاب الثانوية العامة ببورسعيد    افتتاحات مرتقبة لقصور الثقافة في القاهرة وسوهاج وسيناء    هل يوقع أحمد الشرع على اتفاق تطبيع مع إسرائيل؟    حسم الدوري.. التشكيل المتوقع لبيراميدز في مواجهة سيراميكا كليوباترا    البطيخ والكلى.. علاقة مفيدة أم ضارة؟    لمواجهة الفكر المتشدد.. "أوقاف الفيوم" تنظم دروسًا منهجية للواعظات    وزارة العمل: تخريج دفعة جديدة من برنامج "همم مهنية" على صيانة المحمول    محافظ بنى سويف يستمع لمشاكل واحتياجات أهالى قرية بنى هانئ    «المنشاوي» يفتتح تطوير الصالة المغطاة بالقرية الأولمبية بجامعة أسيوط    الزمالك يفقد خدمات الجفالي في نهائي كأس مصر    القاهرة الإخبارية تكشف تفاصيل الغارة الجوية الإسرائيلية على صنعاء    روبوت ينظم المرور بشوارع العاصمة.. خبير مرورى يكشف تفاصيل التجربة الجديدة.. فيديو    «تمريض بني سويف» تستقبل لجنة الدعم الفني بمركز ضمان الجودة    صندوق النقد يحث مصر بتقليص دور القطاع العام في الاقتصاد بشكل حاسم    "أدهم ضحية بلا ذنب".. مقتل بائع متجول تصادف مروره قرب مشاجرة بسوهاج    الحوثيون: إسرائيل شنت 4 غارات على مطار صنعاء    وزير التعليم: 98 ألف فصل جديد وتوسّع في التكنولوجيا التطبيقية    نائب وزير الصحة: إنشاء معهد فنى صحى بنظام السنتين فى قنا    وزير الثقافة: ملتزمون بتوفير بنية تحتية ثقافية تليق بالمواطن المصري    وزير الخارجية يتوجه إلى المغرب لبحث تطوير العلاقات    قرار من «العمل» بشأن التقديم على بعض الوظائف القيادية داخل الوزارة    الحماية المدنية بالقليوبية تسيطر على حريق مخزن بلاستيك بالخانكة| صور    وزير الأوقاف يهنئ الشعب المصري والأمة العربية بحلول شهر ذي الحجة    ألم في المعدة.. حظ برج الدلو اليوم 28 مايو    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد عبده أبرز دعاة التجديد الفكرى والدينى فى عصره.. وخاض العديد من المعارك الفكرية

مع مرور الأيام وتعاقب الزمان يظل التاريخ يحمل لمصر فكرها وفقهها الوسطى الذى أنارت به الدنيا فكانت مهدا للوسطية من خلال فقهائها الذين حملوا صحيح الدين ونشروا وسطيته، حتى أصبحت مصر مهدا لتلك الوسطية، رغم المحاولات التى تتم من قبل جماعات وتيارات لتشويه الفكر الدينى المصرى إلا أن جميعها تبوء بالفشل بفضل فقهاء الوسطية المصريين الذين جعلوا من بلدهم أبية على التشدد والتطرف



يعد الشيخ محمد عبده خير الله خالدًا بحسه النقدى وباتجاهه التنويري، فهو يحتل مكانة كبيرة فى تاريخ الفكر العربى المعاصر، لقد قال بأفكار حية ولم يقل بأفكار ميتة كتلك الأفكار التى تتردد بين الحين والآخر من جانب أشباه الدارسين وأنصار الظلام والرجوع إلى الوراء والصعود إلى الهاوية بئس المصير.. ومن يحاول التغافل عن الرجل وأفكاره، فإن وقته يعد عبثًا ضائعًا.
وسواء اتفق البعض مع الرجل واختلفوا معه حول رأى أو أكثر من الآراء التى قال بها، إلا أن الرجل قد وضع بصماته على مسار فكرنا العربى المعاصر، وقد أحسن صنعًا حين اختلف مع جمال الدين الأفغاني، فإذا قارنا بين الرجلين محمد عبده من جهة والأفغانى من جهة أخرى فإن الخلود يكون للشيخ محمد عبده، إذ كم نجد من أفكار رجعية تارة وظلامية تارة أخرى عند الأفغاني، وإن كان أكثرهم لا يعلمون.
لقد كان الشيخ محمد عبده من أبرز دعاة التجديد الفكرى والدينى فى عصره، لقد بذل جهدًا كبيرًا وخاض المعارك العسكرية.. لقد دخل فى صميم المشكلات الاجتماعية والفكرية، ولم يكن متفرجًا من الخارج ولم يرتض لنفسه أن يجلس فى الخارج متفرجًا أى يجلسنى فى الفناء، ولو كان قد جلس الفناء لكان قد أدركه الفناء، أما وقد خاض بشجاعة وبيقين ونبل وإخلاص العديد من المعارك بحثًا عن التجديد والتنوير، وسعيًا من جانبه نحو الضياء، ونحو كل قيمة خالدة فى حياتنا التى نحياها.. ومن حقنا أن نفخر به كمصرى وعربى نشر النور والضياء، نعم وجب علينا دراسة أفكاره وما أعظمها وأروعها وخاصة إذا قارنا بينها وبين ما يتردد الآن من أفكار ظلامية تارة وإرهابية تارة أخري، يجب علينا دراسة أفكاره حتى لا يزعم البعض أننا جيل بلا أساتذة.
إن خير صورة للاحتفال بمفكرنا الشامخ محمد عبده إنما تتمثل فى تذكير الناس بأفكاره، وذلك طريق نشر كتبه التى قام بتأليفها، وأيضًا إعادة طبع بعض الكتب المهمة التتم تأليفها عنه فى سلسلة مجمع البحوث الإسلامية.
لقد عاش الرجل حياة قصيرة أنتج فيها إنتاجًا غزيرًا ثم مات ولكن الخلود يكون لفكرة، يكون للقيم الرائعة التى دعانا إليها حتى دخل فكرنا المعاصر وتاريخه من أوسع الأبواب وأرحبها..
ولد محمد عبده خير الله، فى بيت الماضى عمدة قرية «شنرا» مركز الجعفرية مديرية الغربية، وهى بلدة داخلية بعيدة عن طرق المواصلات الرئيسية على بعد حوالى خمسة أو ستة كيلو مترات من مدينة طنطا، وعلى مقربة منها جنوبًا قرية الأنبوطين وشبرا قاص وشرقًا قرية ميت حوانى والجميزة، وشمالا قرية طوخ مزيد وغربًا قرية اشنواي، وكل هذه القرى تتبع الآن مركزة السنطة/ غربية.
كان أبوه رحمه الله قد ولد فى محلة نصر مركز شبراخيت محافظة البحيرة، وبجوارها قرية «لقانة» الشهيرة من أبوين مصريين: أم صعيدية مصرية من «بنى عدي»، والأب من أصول صقلية، وقيل من أصل تركمانى وسواء صح هذا أو ذاك فالأم من قبيلة سيدنا عمر بن الخطاب عدوية من أسيوط.
وكان «عبده خير الله» والد الإمام من المشاغبين للسلطة لأسباب نجهلها.. ولذلك دأبت على الإيقاع به، وكان من حملة السلاح المجيدين للرمى به والتنشين الدقيق.. وقد ضيقت السلطة عليه الخناق وحتى لا يقع فى حبائلهم هام على وجه فأسلمته المقادير إلى قرية «حصة شبشير» مركز «حلة منوف» فى ذلك الوقت وهى قرية أيضًا بعيدة بعض الشيء - عن طرق المواصلات العامة ليكون فى مأمن من العيون والعسس، وتقع فى المسافة بين قرية «شبشير الحصة» مركز طنطا طريق المحلة اكبري وبين قرية «كنيسة دمشيت» مركز طنطا على مقربة من قرية «نواج»، وكلا الأخيرتين تقع على طريق طنطا /كفر الشيخ طريق قطور غربية.
زواج عبده خير الله بأم الإمام محمد عبده السيدة «جنينة» بنت عمر عتمان. وقد تزوج من «حصة شبشير» هذه بسيدة من عائلة طبية ومن بيت شهير كريم هو بيت «عتمان» لكنه إثر زواجه ترك هذه القرية تعمية على السلطة، وذهب إلى قرية «طوخ مزيد» ويحكى أنه كانت هناك «ذئبة» متوحشة تسكن فى هيشة هناك، قطعت الطرق وأخافت الفلاحين، ولم يستطع أحد من أهل المنطقة القضاء عليها أو طردها من هناك لكن عبده خير الله كمن لها وصوب عليها قذيفة أصابت منها مقتلًا، وفرح الناس بهذا الخبر وجاءوا زرافات ووحدانا يشاهدون الذئبة القتيلة التى أضجت مضاجعهم، وأصبحت سيرة الرجل على كل لسان وسارت بذكره الركبان، أصبح وأمس عدة أيام فى ضيافة عمدة «طوخ مزيد» وهو من عائلة عبيد.
حفظه للقرآن الكريم:
عندما كبر محمد عبده وشب عن الطوق حفظ القرآن الكريم عند محفظ فى شنرا ثم جوده فى إحدى مقارئ القرآن الكريم بالجامع الأحمدي، وكان سبحان العاطى الوهاب - سريع الحفظ ثم جلس فى حلقات العلم بهذا الجامع ينتقل من حلقة إلى حلقة يقطف من كل بستان زهرة لكن منهج التعليم فى الجامع الأحمدى كان منهجًا وعر شاقا يخالف ما تقضى به أبسط قواعد التربية وكان الصبى ينصرف عن العلم، واشتغل بالزراعة، وهو فى عنفوان حالة نفسية ألمت به فيشاء الله له أن يلتقى بأحد أخوال أبيه «الشيخ درويش خضر» وهو من المتصوفة ذوى القلوب الطيبة زكى الفؤاد استطاع فى أسبوعين أن يروض من الفتى جماحه، وأن يوجهه إلى المعانى القدسية والأنوار الربانية واللذائذ الروحية.
وقد تحدث محمد عبده نفسه عن ذلك الأثر الطيب الذى تلقاه فى ريعان شبابه فقال: «وتفرقت عنى جميع الهموم ولم يبق الا هم واحد، وهو أن أكون كامل المعرفة، كامل أدب النفس، ولم أجد إماماً يرشدنى إلى ما وجهت نفسى إليه، إلا ذلك الشيخ الذى أخرجنى فى بضعة أيام من سجن الجهل إلى فضاء المعرفة، ومن قيود التقليد إلى إطلاق التوحيد.. هذا الشيخ هو مفتاح سعادتى إن كانت لى سعادة فى هذه الحياة الدنيا، وهو الذى رد لى ما كان غاب عنى من غريزتى وكشف لى ما كان خفيًا عنى مما أودع فى فطرتي.
دخوله الأزهر الشريف:
كان دخول محمد عبده إلى الأزهر حدثًا جللاً والتحاقه به كان 1866 م وهو أهم مركز للثقافة الإسلامية يأتيه من شتى بقاع الأرض الشباب المسلم، مزودين بالقليل من المال والكثير من الإيمان من الهند والصين والملايو وجاوة والتركستان من عشرات الشعوب الإسلامية التى يكتب كل شعب منها اسمه على خريطة الدنيا بالدم والجهد والتضحية، كانوا يحضرون إلى القاهرة ليجلسوا على أرض الأزهر، وليستمعوا إلى شيوخه وهم يصاولون الكلمات والحروف، ابتغاء أن يستخرجوا منها من الأسرار ما يملأ بقاع الأرض، ولم يكن الشيوخ أوفر نعمة من طلابهم، فإنهم جميعًا سواء فى خشونة العيش وربط الأحجار.
وطعامهم الحقيقى هو العلم، وهو أقسى على أسنانهم من الخبز الجاف..
ولم يكن أهل الدين فى عزلة عن الحياة، رغم كل ما هم فيه من زهد وقناعة.. كانوا هم الطبقة المثقفة، وشيخ الأزهر الذى قد لا يخرج إلى الدرس فى يومه، لأنهم يغسلون له قميصه وهو لا يملك سواه.. هذه الصورة الجميلة الرائعة كانت تتوارد فى مخيلة أهل الريف من القرويين ومن إليهم من أهل الحضر، فيرسلون أبناءهم إلى ذلك المعهد ليصبحوا خليقين بالانتماء إلى الفصيلة الإنسانية وما من شيء يمكن أن يصرفهم عن هذا الغرض السامى النبيل، فهم يقصدون الأزهر على الدواب وفى السفن التى تجوب البحار والأنهار!!
هذا وقد أنفق محمد عبده من عمره ثلاث سنوات فأكثر، دون أن يجنى فائدة تذكر من الدروس التى كان يستمع إليها هناك، ولا جدال أن مرجع ذلك إلى طريقة التدريس السائدة فى الأزهر، تلك الطريقة الجامدة العتيقة التى كانت تفرض على طلاب العلم مختصرات لا تفهم إلا بشروح وحواش وتقارير، وإنما تزدحم ذاكرتهم بحشد مشوش من المعلومات النحوية المتشابكة والتدقيقات اللفظية التى تزهق الفكر وتعوقه عن النمو فانصرف الشاب محمد عبده عن العلوم الأزهرية، وتطلعت نفسه إلى علوم جديدة.
وفى ذلك الحين أصابته أزمة نفسية جعلته ينقطع عن الدروس، ويمارس ضروب الزهد والرياضة، ويحاول أن يعتزل العالم ويفر من الناس ،ولكن اجتاز هذه الأزمة الصوفية أيضًا بفضل الشيخ درويش.
وكان من حسن حظ محمد عبده أن يلتقى بشخصية أخرى عظيمة ملهمة، فيوجهه كما فعل الشيخ درويش من قبل، وكانت هذه شخصية رجل ثائر وبطل من أبطال التحرير هو السيد «جمال الدين الأفغاني».
وقد التفت حوله صفوة القوم بالقاهرة، واستطاع محمد عبده - بفضل ما تلقاه من أستاذه من هداية روحية أن يتحول نهائيًا عن طريق الزهد، وأن يقبل على الحياة العملية إقباله على دراسة العلوم المختلفة كالفلسفة والرياضيات والكلام والأخلاق والسياسة وغيرها ما لم يكن له مكان فى مناهج الأزهر.
وأخذ الأفغانى يبث تعاليمه الحرة التى لم يكن للناس عهد بها من قبل، وأخذ يقرأ لتلاميذه طائفة من الكتب العربية القديمة والكتب الأوروبية المعربة فى الفلسفة والسياسة، والاجتماع فكان ذلك فتحًا جديدًا فى موضوعات التعليم.
فوجد الشاب المصرى عند الأفغانى روحًا جديدة لم تكن مألوفة عن شيوخ الأزهر، ووجد عنده مذهبًا فلسفيًا واحدًا، ونظرة إلى الحياة عميقة وصورة عن الكون منظمة.
أمتحان العالمية
فى سنة 1877 تقدم محمد عبده لامتحان العالمية فى الأزهر ، فظفر بشهادتها على الرغم من الشكوك التى حامت حول اسمه لاتصاله بجمال الدين الأفغانى ولكتابته الفصول داعيًا إلى التجديد وترك التقليد، وقد أخذ محمد عبده يلقى فى الأزهر وغيره دروسًا فى المنطق والكلام والأخلاق، وامتازت دروسه.
بمنهج جديد جمع حوله عددًا عظيمًا من الطلاب. وقد انضم محمد عبده إلى الفرع الماسونى «كوكب الشرق»وكان يضم حوالى 500 من صفوة البلاد.
وفى سنة 1879 أصبح محمد عبده استاذ التاريخ فى مدرسة دار العلوم، وأستاذًا للأدب فى مدرسة الألسن، وظل يشغل هاتين الوظفيتين إلى جانب مواصلته لدروسه بالأزهر.
محمد عبده والثورة العرابية:
فى مستهل حكم الخديو توفيق عين «رياض باشا» محمد عبده محررًا للجريدة الرسمية، وأصبح رجل الدين الأزهرى بعد وقت قصير رئيس تحريرها، وانتقلت الجريدة إلى عهد من النشاط والاشراق، وبرز فيها ما يميز الإمام محمد عبده من الاتجاه نحو الإصلاح الدين والخلقي، كان الشيخ معلماً أو مصلحًا فى آن واحد كان غايته رفع مستوى الأمة، وتقويم أخلاقها، والنهوض بها نهضة اجتماعية فى أناة وتدرج ومن غير عنف ولا طفرة، وكان يعتقد أن ذلك يتم عن طريق سلوك قادتها سبيل التربية والتثقيف لا سبيل تقليد الغرب من غير فهم نافذ ولا ادراك عميق أو التمسك بظواهر المدنية المادية مع الغفلة عن صميم المدنية الروحية.
كان من نتائج الحركة الوطنية هذه أن حدث انقلاب سنة 1879 أدى إلى سقوط حكومة «نوبار» والوزراء الأوروبيين الآخرين، وهناك نتيجة أخرى هي: تألب الجيش المصرى بقيادة عرابى على الضباط الأتراك والجراكسة الآخرين، وأفضى إلى ثورة أعقبها احتلال الانجليز لمصر سنة 1882 م ولم يكن محمد عبده مشايعًا العرابى فى البداية لكن إزاء تدفق الحوادث لم يستطع محمد عبده إلا أن يسارع بشد أزر العرابيين الثائرين، حتى غداً أحد الرءوس المدبرة لشئون الحكومة الوطنية.. وبعد فشل عرابى اتهم محمد عبده بالتآمر والضلوع مع رجال الثورة وحكم عليه بالسجن ثم بالنفى ثلاث سنوات، فاختار سوريا، ورحل إليها سنة 1883 ولم تطل إقامته بها فاستدعاه الأفغانى إلى باريس.
وعمل مع استاذه بهمة ونشاط بدون كلل أو ملل، لكنه فى صيف سنة 1884م انتقل محمد عبده إلى انجلترا مندوبًا عن «العروة الوثقي».. وبعد إقامة قصيرة فى لندن عاد محمد عبده إلى باريس ليستأنف عمله فى المجلة، لكن السياسة الإنجليزية حالت دون وصول «العروة الوثقي» إلى البلاد الإسلامية. فلم يكن فى وسع المجلة إلا أن تكون قصيرة الأجل.
غادر محمد عبده باريس إلى بيروت مركز الثقافة العربية سنة 1885 م، وقد عهد إليه بالقاء الدروس فى المدرسة السلطانية فى علم الكلام وغيره وقد أسس «جمعية سرية من المسلمين واليهود والمسيحيين»، وقد دارت بينه وبين القس «اسحاق تيلر» عدة مراسلات لكن نشاط الشيخ فسر فى تركيا تفسيرًا يناقض مصالح الخلافة العثمانية، مما حدا بالسلطان عبد الحميد السعى لدى الحكومة الإنجليزية، لإصدار العفو عن الشيخ المصرى ودعوته لمغادرة سوريا فورًا وفى أقرب وقت ممكن.
أعماله فى مصر
ودع محمد عبده حياة المنفي، وعاد إلى وطنه مصر سنة 1888 م وعين قاضيًا بالمحاكم الشرعية..ثم مستشارًا فى محكمة الاستئناف ،وعرف فى القضاء بالاستقلال فى الفكر، والتحرر من الرسوم والشكليات كان يتوخى فى أحكامه تربية الجمهور وايقاظ ضميره، وإصلاح ذات البين بين العائلات.. وصار يدعو إلى أفكار سياسية أكثر اعتدالًا من تلك التى دعا إليها من قبل فى العروة الوثقي، وهو فى المنفى ولما عين عضوًا فى «مجلس إدارة الأزهر» سعى بدأب على رفع مستوى تلك الجامعة العريقة من جميع نواحيها الثقافية والمادية والأخلاقية، ووضع لذلك مشروعه الإصلاحى الكبير، الذى لم يستطع تنفيذه - لكثرة ما وضع فى طريقه من عقبات ومع ذلك فإن هجومه على الخضوع الأعمى للسلطة ودعوته للفكر الناقد وإلى استخدام العقل والاجتهاد، أدت إلى نتائج طيبة فى الدين والأخلاق سرعان ما ظهر آثار دعوته الحرة بين الأزهريين.
عين محمد عبده مفتيًا للديار المصرية سنة 1899 م فأضفى على هذا المنصب مزيدًا من المهابة والسناء لاعهد للناس بهما من قبل، ولم يجعله مقصورًا على الإفتاء فيما يحال عليه من مسائل بل وسع اختصاصه وزاد من نفوذه.
ومما يسترعى الانتباه أن الشيخ محمد عبده كان يلقى حينئذ دروسًا فى تفسير القرآن، انبعثت فى كل كلمة منها روح عصرية، ودعوة إلى التحرير والتجديد الرشيد.. أما أشهر فتاوى الإمام فهى ثلاث: الأولى تبيح للمسلمين ادخار أموالهم وأخذ الفوائد والأرباح عليها، والثانية تبيح للمسلمين ان يأكلوا من ذبائح غيرهم، والثالثة تبيح لهم أن يتزيوا بزى غير زيهم التقليدى وللإمام فتوى أخرى غير مشهورة فى موضع النزاع بين العمال وأصحاب رءوس الأموال وقد سببت هذه الفتاوى كثيرًا من المحاولات الحادة من متزمتى الشيوخ وأثارت سخطهم.. وجلبت على الشيخ الإمام مزيدًا من ضروب القدح والتشهير، مع أنها فتاوى أكثر تسامحًا وملاءمة لروح الإسلام، ومطالب الحياة العصرية وبعيدة عن التقليد.
ثم عين الشيخ محمد عبده عضواً فى «مجلس شورى القوانين» فى 25 يونية سنة 1899 م فكان فيه واسطة العقد يسعى للتوفيق بين وجهتى نظر الحكومة والمجلس، وإزالة أسباب الشقاق والخلاف بين الأعضاء، وكان يرمى فوق ذلك إلى تربية الرأى العام فى مصر والنظر في الأمور العامة والمصالح الوطنية الكبري.
وكان الاستاذ الإمام من أوائل المؤسسين «للجمعية الخيرية الإسلامية» وهدفها نشر الثقافة بين الطبقات الفقيرة، ومد يد العون المادي والأدبي لأبناء المحرومين، وتعويد أفراد الأمة روح الاعتماد علي النفس، وإشعار الأغنياء لعاطفة الرحمة والإحسان للفقراء، وحاول أن يؤلف بين التقاليد الإسلامية وروح الحضارة الغربية، كما استطاع هذا الإمام أن يؤسس جمعية «احياء الكتب العربية القديمة» التي عنيت بنشر روائع المؤلفات العربية الكلاسيكية.
وينسب الفضل إلى الإمام محمد عبده فى إصلاح المحاكم الشرعية، كتب تقريرًا إضافيًا.. بسط فيه فكرته الرئيسية وهى أن ما يهم الدولة أن ترفع المستوى العقلى والخلقى لقضاة المستقبل، وأن تصلح أحوالهم المادية والمعنوية..وإلى محمد عبده يرجع الفضل فى إنشاء مدرسة القضاء الشرعي.
ومن الانصاف أن نذكر جهود الإمام فى الدعوة إلى إنشاء «جامعة مصرية» بعد أن يئس من إصلاح الجامعة الأزهرية العتيقة، وهى جهود غفل عنها معظم المثقفين المصريين، وإن كان قد نوه بها بعض الكتاب الغربيين.
كتب محمد عبده رسالة بالفرنسية، نشرها سنة 1905 مسيو جرفيل فى كتاب له عن مصر الحديثة، جاء فيها بهذا الصدد: إذا نظرنا إلى التعليم الذى تنشره الحكومة من حيث قيمته، فنحن مضطرون إلى أن نلاحظ أنه لا يكاد يقدر على تكوين رجل محترف بحرفة يكتسب بها عيشه ومن المستحيل أن يستطيع هذا التعليم تكوين عالم أو كاتب أو فيلسوف فضلًا عن تكوين نابغة، وكل ما لدينا من المدارس التى تمثل التعليم العالى فى مصر مدرسة الحقوق والطب والهندسة، وأما بقية الفروع التى يتكون منها العلم الإنساني، فقد قدمها المصرى صورًا سطحية فى المدارس الإعدادية، ويكاد يكون من المستحيل أن يتقن منها شيئًا وهو فى الغالب مكره على أن يجهلها جهلًا تاماً، ذلك شأن علم الاجتماع وفروعه التاريخية والخلقية والاقتصادية، وذلك شأن الفلسفة القديمة والحديثة، والآداب العربية والأوروبية والفنون الجميلة أيضًا، كل ذلك مجهول لا يدرس فى مدرسة مصرية، والنتيجة أن فى مصر قضاة ومحامين وأطباء ومهندسين تختلف كفاءتهم قوة وضعفًا فى احتراف حرفهم، ولكنك لا ترى فى الطبقة المتعلمة الرجل الباحث ولا المفكر ولا الفيلسوف ولا العالم، لا ترى الرجل ذا العقل الواسع والنفس العالمية والشعور الكريم، ذلك الذى يرى حياته كلها فى مثل أعلى يطمع فيه ويسمو إليه.
وفى سنة 1911 وجدنا كاتبًا فرنسياً آخر ينوه بجهود محمد عبده فى هذا الأمر فيقول: «إن الشيخ كان ينوى العمل على أن تنشأ فى مصر، إلى جانب جامعة الأزهر جامعة أخرى إسلامية مصرية مهمتها أن تقوم على تعليم العلم وفقًا للمناهج الحديثة وأن تشارك فى تجديد الحضارة العربية القديمة، بالدأب على الاقتباس من النتائج التى توصل إليها علماء الغرب فى العلوم والآداب والفنون.
وإذن فقد كان لمحمد عبده فضل التفكير فى إنشاء الجامعة المصرية، بل لقد ذهب الإمام- كدأبه - إلى أبعد من التفكير إلى التنفيذ فبذل جهودًا كثيرة حتى أقنع «أحمد باشا المنشاوى» بأن يوقف لبناء الجامعة قطعة أرض فى إحدى ضواحى القاهرة وشرع المنشاوى باشا يعد العدة لذلك، لكنه قضى نحبه فتوقف المشروع.
وفاة الإمام محمد عبده
توفى الإمام محمد عبده وهو فى قمة نشاطه فى 11 من يوليو 1905 دون أن يتوفر له الوقت لانجاز مشروعاته الإصلاحية، واحتفلت مصر شعبًا وحكومة بتشييع جنازته، كما كانت وفاته حدادًا عامًا فى أمة الإسلام، وأودع جثمانه مقبرة العفيفى بالقاهرة، وقد نقش على قبره «هو الحى الباقي» «قد خططنا للمعالى مضجعًا، ودفناً الدين والدنيا معاً».
«هنا دفن الأستاذ الإمام الحكيم الشيخ محمد عبده مفتى الديار المصرية، ولد سنة 1266 ه وتوفى سنة 1323 قمرية حياته سبع وخسمسون عماماً، قضى أولها فى التعلم، ووسطها فى التعليم، وآخرها فى إعلاء الدين ونفع المسلمين
أيها الدين أبك حبرا
كان طودًا مشمخرا
منصب الإفتاء أرخ
مات مفتى الناس طرا
1323 441 350 142 210
وهذا هو تاريخ وفاته رحمه الله بحساب الجمل، وهو حساب بالحروف وليس بالأرقام.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.