عيار 21 الآن بعد الارتفاع العالمي.. أسعار الذهب اليوم الجمعة 30 مايو 2025 بالصاغة    سعر الدولار الآن أمام الجنيه والعملات العربية والأجنبية اليوم الجمعة 30 مايو 2025    استعدادًا للعيد.. الطريقة الصحيحة لتقطيع اللحمة    الوكيل: شراكة قوية بين الحكومة والقطاع الخاص.. والقطاع الخاص يساهم بأكثر من 80% في الاقتصاد المصري    "مصر الخير" تطلق جائزة ريادة العطاء 2025 لمحور المياه النظيفة    فلسطين.. قصف مدفعي على بلدة القرارة شمالي مدينة خان يونس    وسائل إعلام لبنانية: غارة إسرائيلية تستهدف بلدة شمسطار في قضاء بعلبك    من أجل السلام في أوكرانيا وروسيا.. صلاة تجمع الرئيس الأوكراني والإنجيلي فرانكلين في برلين    كيف تناولت صحف جنوب أفريقيا انتقال ريفيرو إلى الأهلي؟    بمشاركة منتخب مصر.. بث مباشر قرعة كأس العالم تحت 20 سنة    نجم الأهلي: أفشة قالي إن هدفي هيجيب الدوري.. ومثلي الأعلى حسام غالي    ديوكوفيتش يحافظ على سجله المثالي ويصعد للدور الثالث في رولان جاروس    إمام عاشور يكشف كواليس مشادته مع الأمن في احتفالية الدوري.. وحقيقة مطالبته بتعديل عقده    موعد نتائج سنوات النقل للمرحلة الإعدادية في الغربية الترم الثاني برقم الجلوس (روابط)    ننشر أسماء 23 مصاب في حادث انقلاب اتوبيس نقل عمال بالمنوفية    انقلبت سيارته.. مصرع شاب في حادث سير بالوادي الجديد    ضبط 3431 أسطوانة غاز و1000 لتر سولار قبل بيعها في السوق السوداء بالبحيرة    «الطقس× أسبوع».. ربيعي «مائل إلى شديد» الحرارة والأرصاد تحذر من 3 ظواهر جوية    610 ساحة للصلاة وتشديدات صارمة للتصدي للمخالفات.. كيف استعدت «أوقاف الإسكندرية» ل عيد الأضحى المبارك؟    مسجلوش على سيستم الامتحانات.. منع 65 طالبًا بمدرسة من دخول امتحانات الثانوية التجارية في سوهاج (خاص)    مصرع شاب صدمته سيارة والده بالخطأ في مدينة العاشر من رمضان بالشرقية    والدة إبراهيم شيكا: "عايزة كل قرش في ورث ابني ومراته بصمته في المستشفى"    4 أبراج «بيحبوا السيطرة».. قياديون يتمتعون بالكاريزما لكن ثقتهم الزائدة قد تتحول لغرور    ليلى علوي تحتفل بنجاح نجلها خالد في مشروع التخرج.. ماذا قالت؟    بعد إزالة الوشم.. أحمد سعد يصلي في غار حراء والمسجد النبوي (صور)    الإمساك.. الأسباب الشائعة وطرق العلاج بوصفات طبيعية    تجاهل تنظيف منطقة في الأذن قد يعرض حياتك للخطر.. تحذير خاص لأصحاب «النظّارات»    روسيا تتهم حليفتها صربيا بالخيانة لتوريدها الأسلحة إلى أوكرانيا    ترامب يكشف عن أمر يهمه أكثر من 5.1 تريليون دولار عاد بها من السعودية وقطر والامارات    ترامب يبحث مع رئيس الاحتياطي الفيدرالي التطورات الاقتصادية دون التطرق لأسعار الفائدة    اعتماد برنامجي علم الحيوان والبيوتكنولوجي والبيئة البحرية بكلية علوم جامعة قناة السويس    رئيس حماية المستهلك: تلقينا أكثر من 32 ألف شكوى متعلقة ب"التسوق الإلكتروني"    23.1 مليون جنيه حصيلة مزاد علني لبضائع وسيارات جمارك بورسعيد    باختصار.. أهم الأخبار العالمية والعربية حتى منتصف الليل.. حماس: مقترح ويتكوف حول غزة لا يستجيب لمطالبنا.. 23 وفاة و1375 إصابة جديدة بالكوليرا فى السودان.. ولماذا غادر الملياردير إيلون ماسك إدارة دونالد ترامب    شيكابالا يكشف تفاصيل أزمته مع حسن شحاتة    عضو مجلس الأهلي: كنت أثق في اللاعبين للتتويج بالدوري    جراديشار بعد التتويج بالدوري: الأهلي لا يستسلم وشكرا لدعم الجماهير فى كل خطوة    وزير الأشغال العامة الفلسطينى: نشكر مصر على دعمها للقضية الفلسطينية    متحدث الأوقاف: صكوك الأضاحى بدأ فى 2015 ووصلنا إلى 10 ملايين أسرة    وكيل أوقاف الفيوم يشهد فعاليات كتاب مسجد على مفتاح.. صور    بوتين: القرم عادت إلى روسيا باختيار شعبها    نابولي يعلن استمرار أنطونيو كونتى فى قيادة الفريق بالموسم المقبل    «الإسعاف»| 123 سنة إنقاذ.. 3200 سيارة حديثة و186 مقعدا لاستقبال البلاغات يوميًا    المنوفية تُطلق جيلًا رقميًا جديدًا في وحدات الرعاية.. وتُنهي 96 دورة تدريبية    البيت الأبيض: إسرائيل وافقت على اقتراح وقف إطلاق النار والمناقشات مستمرة مع حماس    خاص| أمينة خليل تستعد لحفل زفافها في بلدين مختلفين.. تفاصيل الفرح    مطار سفنكس يستعد لاستقبال الوفود الرسمية المشاركة في افتتاح المتحف المصري الكبير    "مستقبل وطن" يستقبل وفدًا من السفارة الأمريكية بالقاهرة لتبادل الرؤى حول العلاقات الثنائية والقضايا الدولية    خالد الجندي: لا يصح انتهاء الحياة الزوجية بالفضائح والانهيار    أجمل ما يقال للحاج عند عودته من مكة بعد أداء المناسك.. عبارات ملهمة    الإفتاء: توضح شروط صحة الأضحية وحكمها    رواتب مجزية ومزايا.. 600 فرصة عمل بمحطة الضبعة النووية    الوزير محمد عبد اللطيف يلتقي عددا من الطلاب المصريين بجامعة كامبريدج.. ويؤكد: نماذج مشرفة للدولة المصرية بالخارج    رئيس جامعة بنها يتفقد سير الامتحانات بكلية الهندسة- صور    يوم توظيفي لذوي همم للعمل بإحدى شركات صناعة الأغذية بالإسكندرية    بالصور- وقفة احتجاجية لمحامين البحيرة اعتراضًا على زيادة الرسوم القضائية    كل ما تريد معرفته عن سنن الأضحية وحكم حلق الشعر والأظافر للمضحي    جامعة حلوان تواصل تأهيل كوادرها الإدارية بدورة متقدمة في الإشراف والتواصل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإمام محمد عبده «2»

مع مرور الأيام وتعاقب الأزمان يظل التاريخ يحمل لمصر فكرها وفقهها الوسطى الذى أنارت به الدنيا فكانت مهدا للوسطية من خلال فقهائها الذين حملوا صحيح الدين ونشروا وسطيته, حتى أصبحت مصر مهدا لتلك الوسطية ، ورغم المحاولات التى تتم من قبل جماعات وتيارات لتشويه الفكر الدينى المصرى إلا ان جميعها تبوء بالفشل بفضل فقهاء الوسطية المصريين الذين جعلوا من بلدهم ابية على التشدد والتطرف




كان الشيخ محمد عبده فى مقدمة من تلقوا الرسالة عن «جمال الدين الأفغانى» الذى كان يدعو ويعمل لإيجاد نهضة إسلامية شاملة تنقذ الشرق الإسلامى مما انتابه من حالة الركود والضعف وتحرره من نير الأجانب، وتمكنه من أن يستعيد قوته ولقد كان فى مقدمة تلاميذ الأفغانى و الذى قال عنه الأفغانى عند رحيله من مصر «تركت لكم الشيخ محمد عبده وكفى به فى مصر عالما» فهو الذى حمل اللواء بعده وواصل دعوته وأكمل منهاجه.
غير أن الحقيقة العامة التى يجب أن تقرر أولا هى أنه إذا كانت أهداف الرجلين الكبيرين واحدة فإن الشيخ محمد عبده بعد أن استقل بوضع الخطة لنفسه وذلك بعد أن عركته الأحداث وأنضجته التجارب اتخذ لبلوغ الإصلاح طريقا يختلف عن طريق السيد الأفغانى وهذا النهج هو الذى جعل لمحمد عبده طابعه الخاص وهو الذى به يتحدد مكانه فى تاريخ نهضة الشرق الحديث.
ذلك أن السيد جمال الدين الأفغانى اختار للوصول إلى أهدافه طريق «الثورة السياسية» وكان جهاده أكثره سياسيا عمليا فلم يتفرغ لأبحاث نظرية وإنما أوجد مدرسة من الرجال وبث روحا.. أما الشيخ محمد عبده فإنه رأى أن يتخذ طريقا آخر فبدلا من الثورة السياسية التى يبدو أنه آمن بها أيضا فى عهد شبابه وأشترك فيها إلى حد ما رأى بعد ذلك أن يوجه جهوده إلى الإصلاح الدينى والنهضة الثقافية والاجتماعية.
فقد تبين له أن الثورة السياسية لا تنجح حقا إلا إذا كانت الأمة قد بلغت درجة عالية من الوعى الثقافى وإلا إذا كان فكرها ووجدانها قد بلغا من النضج قدرا يجعلها تدرك المبادئ بوضوح وتؤمن بها وتثبت عليها وتتحمل الأهوال فى سبيلها فمن هنا اختلفت طريقتا أو وسيلتا المصلحين مع أن الغايات واحدة وكان هذا نابعا لاختلاف مزاجى الرجلين الكبيرين.
لكن كان كل من المنهجين خيرا للعالم الإسلامى ومحققا لأهدافه فى التقدم فإذا قيل إن «السيد جمال الدين» قد أحيا الروح فإنه يمكن القول بأن الإمام محمد عبده أحيا أو أيقظ العقل وكان لابد للنهضة الإسلامية الحديثة من وجود العقل والروح معا ليتآزرا ويتعاونا ولا غنى لأحدهما عن الآخر.
هذه هى الفكرة العامة عن منهج الشيخ محمد عبده الذى عرف به فى التاريخ، أما فيما يتعلق بحياته فيكفى أن نذكر أهم الحقائق عنها لكى تكون الصورة واضحة عن شخصية الرجل والظروف التى عاش فيها والتى كون فيها أفكاره وأول هذه الحقائق أن حياته وقعت فى النصف الأول من القرن التاسع عشر حيث ولد قبل منتصف ذلك القرن ثم عاش حتى مطلع القرن العشرين حيث توفى سنة 1905م.
ومن الحقائق فى دور نشأته أنه كان هناك رجلان أو شخصيتان كان لهما أكبر الأثر فى توجيه وتكوين نفسيته هذان هما: السيد درويش خضر أحد أخوال والده ذلك الرجل الصوفى الذى كان على جانب من الثقافة فإنه هو الذى حبب إليه العلم وشجعه على المضى فى التعليم بالأزهر وهداه إلى سلوك الطريق الصوفى.. أما الثانى فهو السيد جمال الدين الأفغانى ذلك الذى أوقد الجذوة المقدسة فى صدر محمد عبده وعرف بنفسه وبين له طريق البحث والنظر وأورثه رسالة الإصلاح وقد قال محمد عبده عن أثر جمال الدين فى تكوينه إن الحياة التى أعطاه إياها والده هى حياة شاركه فيها أخواه اللذان يعملان فى الريف أما الحياة التى أعطاها له السيد جمال الدين الأفغانى فهى حياة جعلته يشارك فيها الأنبياء صلوات الله عليهم وهو يقصد بذلك الحياة الروحية والمستوى الإنسانى السامى الذى يبلغه الإنسان إذا أخلص فى دينه وأهتدى بهدى الأنبياء صوات الله عليهم أجمعين.
وقد تلقى الشيخ محمد عبده تعليمه العام فى الأزهر وتخرج فيه سنة 1877م ثم اشتغل بتدريس التاريخ الإسلامى وفلسفة الاجتماع فى دار العلوم كما عمل بالصحافة واشترك إلى حد ما فى الثورة الوطنية «العرابية» ولما حكم عليه بالنفى بعد انتهائها سافر إلى بيروت ثم استدعاه جمال الدين إلى باريس كما أشرنا حيث تعاونا فى تحرير جريدة «العروة الوثقى» التى كانت حربا على المستعمرين لكنه عاد إلى بيروت فاشتغل ثانية بالعلم وهناك أملى رسالته فى «علم التوحيد» التى جمعها ودونها بعد ذلك فى مصر.
وكانت عودته إلى مصر سنة 1888م حيث بقى بها إلى أن أدركه الأجل سنة 1905م أى بعد سبعة عشر عاما هذه المرحلة الأخيرة من حياته هى التى كانت أكثر خصبا وهى التى شعر فيها بالاستقرار وظهر فيها طابعه وغزر إنتاجه أوضحت رسالته ومنهجه فى الإصلاح.
ففى هذا الدور تولى عدة مناصب فقد تولى مناصب القضاء ثم الإفتاء وعضوية مجلس إدارة الأزهر ومجلس الأوقاف ومجلس شورى القوانين وفى كل هذه المناصب كان يرسم خطة الإصلاح ويعمل لتنفيذها فترك فى كل من هذه الوظائف التى تقلدها أثرا نافعا كما أنه كان فى مقدمة المصلحين الاجتماعيين فدعا إلى تأليف منظمات البر وتأسيس الجمعيات الخيرية وبعض الجمعيات التى تعمل لنشر الثقافة الإسلامية والعربية وإحيائها ونقل الثقافة الحديثة.. وهذا هو مجمل الحقائق فى حياة الشيخ الإمام محمد عبده.
إذا أردنا بعد ذلك أن نحدد مكانته فى تاريخ النهضة الدينية والفكرية فى العالم الإسلامى الحديث إن محمد عبده قد بلغ من مكانته وفضله أنه حطم قيود التقاليد: وحرر العقل من إساره وعمل على التوفيق بين الدين والعقل وبذلك أوجد حركة فلسفية جديدة وفى وقت واحد أعاد للعقل مكانته كما جعل أساس الدين قويا متينا على أنه لم يغفل شأن الوجدان أو العاطفة الدينية ولم يقلل من أثرها فنادى بأن يكون هناك توازن بين الفكر والوجدان وفى كل ذلك كان إماما ومجددا ومن ثم استحق هذا الوصفة ذلك لأن المستوى العلمى فى مختلف أنحاء العالم الإسلامى كان قد انخفض فى خلال القرن الماضى إلى درجة مخيفة فأصبحت كل غاية التعليم دراسة ألفاظ وعبارات إصطلاحية والعكوف على كتب معينة هى موجزات أو ملخصات للعلوم من تأليف المتأخرين فنسيت كتب المتقدمين وأصبح النقل والحفظ هو عمدة التعليم وكاد أن يصير النظر الفردى بالفكر المستقل محرما وكل فكرة جديدة ينظر إليها على أنها بدعة وكل اختراع يحسب على أنه مخالف للإسلام.
وهكذا لو استمر الحال كذلك لوصل الإسلام إلى وضع يكون فيه متخالفا مع المدنية الحديثة ومع نتائج التقدم العلمى والفلسفة العصرية ولاتسعت على مر الزمن مسافة الخلف بين الجانبين.
ولكن الإمام محمد عبده ثم من تبعه من تلاميذه العديدين فى مصر وسوريا كانوا فى مقدمة من أنقذوا الإسلام من مثل هذا الموقف حيث أدركوا روح الإسلام الحقة وفهموا فلسفة وحكمته العالية وعرفوا مزاياه الذاتية وفضائله التى تتجاوز حدود الزمان والمكان ثم عرضوا كل ذلك فى الأسلوب الحديث الذى يفهمه العقل ويؤيده والذى يلائم روح العصر ومن أجل هذا وصف محمد عبده بأنه رائد الفكر الدينى الحديث وبأنه مؤسس المدرسة الحديثة وبأنه مؤسس ومجدد وفيلسوف ومصلح وكل هذه هى أوصاف حق.
لقد كون محمدعبده مدرسة من المفكرين ساروا على نهجه وكان لهم أثر كبير فى تطور الفكر فى مصر وسوريا بخاصة والعالم الإسلامى كله بعامة.
تجلى منهج محمد عبده هذا فى تفسيره أولا هذا التفسير الوافى فى المحكم للقرآن الكريم الذى كتب هو بعضه مباشرة بقلمه.
وبعضه كتبه تلميذه وحامل لوائه بعده السيد محمد رشيد رضا ففى هذا التفسير تتبين عبقرية الإمام محمد عبده وذكاؤه النفاذ وعلمه الغزير بالعلوم القديمة والحديثة وبلغته ومنطقه العذب كما يتجلى منهجه أيضا فى رسالته القيمة «رسالة التوحيد» وهى التى تدرس إلى اليوم فى الأقسام العالمية بكليات ومعاهد مصر والهند وغيرهما والتى يجدر بمعاهد العلم الإسلامية فى كل مكان أن تجعلها عمدة دراساتها لأصول الدين ويتجلى المنهج كذلك فى المقالات الكثيرة التى نشرها الإمام فى الصحف والمجلات والتى أثبتها ونشرها تلميذه النجيب «السيد رشيد رضا» فى الجزء الثانى من التاريخ الكبير الذى ألفه وأسماه تاريخ الإمام محمد عبده.
ولكى تتضح الطبيعة العامة لهذا النهج الجديد نرى أن نقتبس بعض أقوال الإمام محمد عبده نفسه التى اشتملت عليها رسالته فى التوحيد لأنها تبين الدعوة التى عمل جهده لنشرها فمن ذلك قوله جاء القرآن فنهج بالدين منهجا لم يكن عليه ما سبقه من الكتب المقدسة.. وقص علينا من صفات الله ما أذن الله لنا أو ما أوجب علينا أن نعلم لكن لم يطلب التسليم لمجرد أنه جاء بحكايته ولكنه أقام الدعوى وبرهن وحكى مذاهب المخالفين وكر عليها بالحجة وخاطب العقل واستنهض الفكر وعرض نظام الأكوان وما فيها من الإحكام والاتقان على أنظار العقول وطالبها بالإمعان فيها لتصل بذلك إلى اليقين ثم قال وتآخى العقل والدين لأول مرة فى كتاب مقدس على لسان نبى مرسل بتصريح لا يقبل التأويل.
ومما قاله أيضا: أنحى الإسلام على التقليد وحمل عليه حملة لم يردها عنه القدر فبددت فيالقه المتغلبة على النفوس واقتلعت أصوله الراسخة فى المدارك.
ثم قال متحدثا عن الإسلام: صاح بالعقل صيحة أزعجته من سباته وهبت به من نومة طال عليه الغيب فيها.. علا صوت الإسلام على وساوس الطغاة وجهر بأن الإنسان لم يخلق ليقاد بالزمام ولكنه فطر على أن يهتدى بالعلم والأعلام: أعلام الكون ودلائل الحوادث وإنما المعلمون منبهون ومرشدون وإلى طريق البحث هادون، فأطلق بهذا سلطان العقل من كل ما كان قيده وخلص من كل تقليد كان استعبده ورده إلى مملكة يقضى فيها بحكمه وحكمته مع الخضوع فى ذلك لله وحده والوقوف عند شريعته.
وختم قائلا: بهذا وما سبقه تم للإنسان بمقتضى دينه أمران عظيمان طالما حرم منهما وهما: استقلال الإرادة واستقلال الرأى والفكر وبهما كملت إنسانيته واستعد لأن يبلغ من السعادة ما هيأه الله له بحكم الفطرة التى فطر عليها، وليس أبلغ من هذا فى التعبير عن فلسفة الإمام محمد عبده وتوضيح طبيعة الإسلام.
منهجية الإمام محمد عبده
قبل أن نفيض فى ترجمة حياته وما قام فيها من أعمال جليلة يحسن بنا أن نلم ببيئته الأولى لنعرف من أين جاءه هذا النبوغ ومن أين أتاه هذا التكوين الذى دهش له أستاذه «جمال الدين الأفغانى حين قال له وهو طالب أهرى يلبس الزعبوط وقد تحلى بجميل الأخلاق ومحاسن الصفات من العفة والعزة ورعاية الكرامة: قل لى بالله عليك من أى أبناء الملوك أنت؟ يقول ذلك للشيخ محمد عبده المجاور بالأزهر وهو الذى كان «أى الأفغاني» يخاطب الملوك مخاطبة الند للند ويهدد بعضهم فيخافه ويوسط أكبر سلطان مسلم فى عصره ليحول بين السيد وبينه.
بيئته وأهله
قلنا فيما سبق أنه ولد فى قرية «شنرا البحرية» مركز الجعفرية بمديرية الغربية لكن والده «عبده خير الله» كان قد ولد فى «محلة نصر» مركز شبراخيت التابعة لمديرية البحيرة على نحو ما فصلناه ويعرف عن أبيه هذا أنه كان قليل الكلام وقور المظهر لا يختلط بصغار الناس يحترمه أهل بلده ويوقرونه يقرى الضيف ويؤوى الغريب ويكرم النزيل.
كانت هذه الخصال تؤثر فى محمد الصغير ويعتقد أن أباه أعظم رجل فى القرية بل أعظم من فى الدنيا ذلك لأن الحكام كانوا ينزلون فى بيتهم لا فى بيت العمدة «عمدة محلة نصر» على سمعته وثروة صاحبه فتعلم أيضا أن الكرامة وعلو الهمة لا يتعلقان بالثروة والمراكز الرسمى وكان الوالد ذا عزيمة وثبات على الرأى قاسيا على من يعاديه وكما كان والده مهيبا فى القرية كانت والدته ترحم المساكين وتعطف على الضعفاء والمحتاجين.
ظلم الحكام فى تلك الأيام:
كان يكفى للإطاحة بأسرة من الأسر أن يشى بها واش كذاب إذ كان الظلم والاستبداد من مظاهر هذه الأيام وكان ظلما لا يقف عن حد فلا قانون مرعى ولا عدل ينصف المظلوم فقد وشى أحد الحاقدين الحاسدين على أسرة «خير الله» بأن عندهم سلاحا وأنهم وأعوانهم يقفون فى وجه الحكام فأخدوا جميعا وزج بهم فى السجون لا يخرج الواحد منهم إلا ميتا ثم سلب هذا الكاشح بمعونة الحكام له كل ما وصلت إلى يده حتى الأبواب وخشب السقوف فها جر والد المترجم وعمه ومن معهما إلى كنيسة أورين وهى قرية صغيرة تتبع مركز شبراخيت ونزلوا عند الحاج محمد خضر وهو خال والد المترجم ولكنه خشى أن يؤويهم خوفا من الاضطهاد مع أنه عمدة القرية فانتقلوا إلى قرية تتبع مركز «الجعفرية» هى شنرا مركز السنطة حاليا.. ثم استأجروا أرضا وعملوا فيها واشتهر الوالد بالفتوة والبراعة والحنكة فى الصيد بالسلاح.. فأحبه مصطفى المنشاوى وأحمد ومحمد أخواه وكانوا موظفين فى دايرة الخديو إسماعيل بالقرشية مركز الجعفرية غربية وأصبح بينهما صداقة ومحبة.
كما وقع هذا الظلم بأهل قرية «محلة نصر» تسللوا بيتا بيتا ليقيموا بجوار من سبقهم وفى ذلك وعلى ذلك الواشى فجدد الوشاية ورفع الشكوى إلى مدير البحيرة وكان الوالد حينئذ فى شبرا خيت مدعيا أن عبده خير الله أصبح مأوى لمن فروا بأسلحتهم من القرية وكان «عباس الأولى قد أصدر أمرا بتجريد «الأهالى» من السلاح واتهم أيضا مصطفى المنشاوى بإيوائه بعض الهاربين الفارين من الخدمة العسكرية، فخرج الجميع فى السجن، ومازالوا فى السجن حتى أفرج عنهم فى أول ولاية سعيد باشا، فعاد الوالد إلى قريته، فلم يجد مما كان يملكه أسلافه.
أثر الوراثة فى المترجم:
من هذه النبذة الوجيزة عرفنا ما كان عليه والد الشيخ من الشهامة والشجاعة والوقار والسخاء والاحترام من الناس فهل تأثر الشيخ محمد عبده بالوراثة فى اكتساب تلك الصفات الحميدة؟.. أكثر الناس الكلام فى الوراثة وجعلوها أصلا فى التكوين الجسمى والنفسى والخلقى فقالوا: «العِرق يمد لسابع جد»، ويقول أبو حيان التوحيدى فى مسائل الحرف والصناعات والفنون الإسلامية: «والعِرق إذا وشج على شىء من الفضائل أو الرذائل يأتى بالعجائب وأوفى على الغرائب».
لكن بعض الباحثين يرى أن الناس بالغوا فى ذلك، فإننا نرى الوراثة كثيرا ما يختلف أثرها فيتساءل الناس أين أثر الوراثة فى هذا الرجل أو فى هذه المرأة؟ والمشاهد أن الوراثة قد يكون لها أثر وقد يكون لها ولا يظهر لها هذا بالأثر، وإلا فما يقولون فى ابنى آدم عندما هدد أحدهما الآخر بالقتل بل قتله بالفعل أو فى ابن نوح وأبوه من أولى العزم من الرسل يقول له: «يا بنى اركب معنا ولا تكن مع الكافرين».. ويعقوب مع بنيه.. وغير ذلك الكثير بل رأينا دعاوى حديثه إلى قتل الأبرياء وكل من يقف فى وجه اليهود والتغالى فى دعوى أن كل ما على الأرض ومن عليها هما ملك وعبيد لإسرائيل.. إلخ إلخ، فأين كان إذن أثر الوراثة فى هؤلاء وقد علمنا أن الجدود كانوا أنبياء الله الكرام.
وعلى الضد من ذلك قد نرى بيئته غير كريمة، ونرى أبوين أحدهما أو كليهما ليسا مثاليين، ويخرج من بينهما الحق من يلفت النظر بأدبه وخلقه وحسن سعيه وجمال سلوكه وجهاده فى الخير.. فأين أثر الوراثة هنا.
الحق أن الوراثة قد لا تكون كل شىء فى التكوين والسلوك الشخصى ونرى أن الأخلاق المكتسبة بالمعاشرة والقدوة الحسنة وسهر المدربين وشدة ملاحظتهم للطفل ورعايته، قد تؤثر بما لا تؤثر فيه الوراثة واقرأ قول الله تعالى: «فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله».. وقوله صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه.. إلخ».
طلبه للعلم
يدخل الطفل محمد عبده كتاب القرية ليتعلم القراءة والكتابة إلا بعد العاشرة من عمره، ثم حفظ القرآن الكريم للمرة الأولى فى قرية «شِنِّرَا» ثم ثبته حفظا للمرة الثانية، ثم أسلمه لمعهد طنطا، حيث كان أخوه لأمه «الشيخ مجاهد» ويسبقه إليه لتجويد القرآن الكريم، كان ذلك سنة 1279ه.
وفى سنة 1281 ه انتظم فى دورس العلم، فبدأ يدرس النحو فى شرح الشيخ خالد على الأجرومية، فقضى سنة ونصف السنة لا يفهم شيئاً، لأن طريقة التأليف والتعليم كانت عقيمة لا توهل إلى نتيجة مجلس الشيخ الصغير الطالب للعلم وهو خالى الذهن من كل شىء، فيفاجأ بدرس النحو فى كتاب واحد مؤلف من عدة كتب: المتن أولاً، وهو اختصار سريع للقواعد، وعلى المتن يشرح قواعده ويفسر شواهده ويعربها، وعلى الشرح حاشية يستدرك فيها صاحبها على الشرح ثم الهامش يستدرك فيه صاحبه على الحاشية عدة كتب فى كتاب واحد، ومطلوب من الصغير المبتدئ أن يلم بذلك كله فى كل درس، هذا بعد المقدمة التى يفسر فيها الشارح مبادئ النحو، وهى -ككل فيه- عشرة منها: تعريف العلم الذى يدرسه الطالب الصغير وموضوعه وثمرته والحاجة إليه.. إلخ إلخ، ثم يبدأ بدرس ثان وهو إعراب بسم الله الرحمن الرحيم ومتعلق حرف الجر وتقديره، ثم أوجه الإعراب فى (الرحمن الرحيم» وما يجوز منها وما يمتنع ولابد من أن يراد هذا البيت: إن ينصب الرحمن أو يرتفعا فالجر فى الرحيم قطعا منعا.
وبعد ذلك إعراب عنوان الدرس الثالث، وقد يكون كلمة كتاب أو باباً، ولابد من إعراب كلمة باب أو كتاب والأوجه الجائزة فيه.
كل ذلك يتلقاه الطالب المبتدئ فى الدروس الأولى وكأنه يتلقى بلغة أجنبية لا يعرف عنها حرفا واحدا فهل بعد ذلك نعجب؟ إذا كان الطالب يمكث فى طلب العلم عشرين سنة فأكثر ومحصوله من العلم قليل.. ولعل هذه البداية هى التى جعلت الشيخ محمد عبده يثور على طريقة التعليم فى الأزهر حين صار له من الأمر شىء.
أدرك الشيخ اليأس من النجاح وهرب من الجامع الأحمدى عند أخوانه ثلاثة شهر، ثم عثر عليه أخوه وأراد إكراهه على العودة فأبى إلا أن يعود إلى البلد، ليشتغل بالزراعة، وعاد عازما على ألا يعود إلى طلب العلم، وتزوج سنة 1882 ه.
يقول الشيخ محمد عبده خير الله: «فهذا أول أثر وجدته فى نفسى من طريقة التعليم فى طنطا وهى بعينها طريقة الأزهر وهو الأثر الذى يجده خمسة وتسعون فى المائة ممن لا يساعدهم القدر بصحبة من لا يلتزمون هذا السبيل فى التعليم سبيل إلقاء المعلم ما يعرفه وما لا يعرفه بدون أن يراعى المتعلم ودرجة استعداده للفهم، غير أن الأغلب من الطلبة الذين لا يفهمون إلا أنفسهم فيظنون أنهم فهموا شيئا فيستمرون على الطلب إلى أن يبلغوا سن الرجال، ثم يبتلى بهم الناس، وتصاب بهم العامة، فتعظم بهم الرزية لأنهم يزيدون الجاهل جهالة، ويضللون من توجد عنده داعية لاسترشاد، ويؤذون بدعاويهم من يكون على شىء من العلم، ويحولون بينه وبين نصح الناس بعلمه.
وبعد أربعين يوما من زواجه ألزمه أبوه بالعودة إلى طنطا، وبعد امتناع واحتجاج لم يجد مندوحة من الطاعة، فركب فرساً، وصحبه أحد أقاربه ليوصله إلى محطة إيتاى البارود ليركب منها القطار إلى طنطا، وكان يوما قائظا حره شديد والريح عاصفة ملتهبة، فقال محمد عبده لصاحبه: أنا لا استطيع مواصلة السير فى هذه الحرارة، فلنعرج على قرية ننتظر فيها حتى يخف الحر، فأبى فأجرى الفرس وتركه وأعلمه أنه ذاهب إلى (كنيسة أورين) وفيها خئولة أبيه، وقد كان معروفا بالفروسية واللعب بالسلاح، ففر به شباب هذه القرية، ورجوا أن يقيم معهم مدة يلهو كل منهم بالآخر.
أدركه صاحبه وبقى معه إلى العصر، ثم أراده على السفر فأبى وسلمه الفرس على أنه سيسافر إلى طنطا غدا فى الصباح، وقال له: إن شئت فقل إنى سافرت إلى طنطا، وبقى هو فى القرية خمسة عشر يوماً، تحولت فيها حاكمة، واكتسب رغبة غير رغبته الأولى على نحو شرحنا عند حديثنا عن الشيخ درويش خضر الذى استطاع بصلاحه وقوة حجته وحنكة أن يقنع محمد عبده بالعودة إلى دراسة العلم بالجامع الأحمدى وإذا أراد الله أمرا هيأ له أسبابه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.