مازلنا مع سيرة أشهر الرموز المصرية الذين علا نجمهم فى مصر بعد دخول المستعمر الإنجليزى بلادنا، وبدأ فى إعادة صياغة فكر ووعى هذا الشعب، ومع بدايات القرن العشرين طفت على السطح (نخبة) فى مجالات الدين والسياسة والأدب والفن، استغلوا جهل المجتمع فى ذاك الحين، ونشروا ضلالاتهم، ورفعت المحافل الدولية التى تخضع لهيمنة الماسونية من شأنهم، وأشادت بهم وبإنتاجهم، بل وقررت لبعضهم الجوائز والعطايا. منذ بداية هذه المقالات وردود الأفعال لا تنتهى، بل تزيد وتتسع بما يشكل ظاهرة صحية فى القضايا الفكرية، ومن خلال هذه المقالات كشفنا الجوانب الخفية فى حياة (زعيم الأمة) سعد زغلول، والشيخ (المستنير) محمد عبده، ورائدة النهضة النسائية هدى شعراوى، واليوم نتكلم باختصار شديد عن أستاذ هؤلاء جميعا (فى الضلال) الشيخ الكبير جمال الدين الأفغانى، الذى بحث سيرته محققون كبار، وفضحوا حقيقته المخزية، وأشهر هذه المؤلفات: كتاب "منهج المدرسة العقلية فى التفسير" للدكتور فهد بن عبدالرحمن الرومي، إصدار دار الرسالة سنة 1981، وكتاب "تاريخ الأستاذ الإمام محمد عبده"، للعلامة محمد رشيد رضا، الذى صدر عام 1905، وصدر عن دار الفضيلة سنة 2006، ثم كتاب "صحوة الرجل المريض" للمحقق والمؤرخ السورى الدكتور موفق بنى المرجة، الصادر عن دار البيارق ببيروت فى عدة طبعات. جمال الدين الأفغانى هو جمال الدين بن صفدر المازندرانى المعروف بالأفغانى ولد عام 1838م ، وقد اختلف فى نسبه وبلدته وعقيدته، وفى كتاب صحوة الرجل المريض، صور فوتوغرافية له بالزى الفارسى الشيعى، وأخرى بالزى الهندى، وثالثة بالزى الإنجليزى الإفرنجى، ورابعة بالزى المصرى الأزهرى ... وهكذا. جمال الدين الأسد آبادى، شخصية يكتنفها الغموض والسرية، تحوط بمعظم تصرفاته علامات استفهام كثيرة، إذ كان الأفغانى ذا علاقة مريبة باليهود والنصارى والمرتدين، وعلى صلة وثيقة بالمحافل الماسونية، بل كان رئيساً لأحدها وهو محفل "كوكب الشرق" فى القاهرة، ولذلك وجد الأفغانى من علماء الإسلام من يفتى بكفره وانحلاله، فقد اتهم الأفغانى بالإلحاد والخروج من ربقة الدين عدة مرات، والذى يقرأ مؤلفات الأفغانى ورسائله التى كان يرسلها لتلامذته وأتباعه يرى من خلالها أنه كان صاحب عقيدة غير سوية. وكذلك رسائل تلامذته إليه بها ما ينضح بالغلو القبيح والشرك الصريح، فمن ذلك رسالة الشيخ محمد عبده إلى (أستاذه) جمال الدين الأفغانى بتاريخ 5 جمادى الأولى سنة 1300، يقول فيها: " ليتنى كنت أعلم ماذا أكتب لك، وأنت تعلم ما فى نفسى كما تعلم ما فى نفسك، صنعتنا بيدك وأفضت على موادنا صورها الكمالية وأنشأتنا فى أحسن تقويم، فيك عرفنا أنفسنا، وبك عرفناك، وبك عرفنا العالم أجمعين، فعلمك بنا كما لا يخفاك علم من طريق الموجب، وهو علمك بذاتك، وثقتك بقدرتك وإرادتك، فعنك صدرنا وإليك إليك المآب". والرسالة طويلة وحافلة بعبارات خطيرة توجب إعادة النظر فى عقيدة الرجل عند من لا تخدعه الأسماء، وقد استغرب السيد رشيد رضا نفسه هذه الرسالة من أستاذه حيث قال عند سياقه لها: "ومن كتاب له إلى السيد جمال الدين عقب النفى من مصر إلى بيروت، وهو أغرب كتبه، بل هو شاذ فيما يصف به أستاذه مما يشبه كلام صوفية الحقائق والقائلين بوحدة الوجود التى كان ينكرها عليهم بالمعنى المشهور عنهم، وفيه من الإغراق والغلو فى السيد (جمال الدين) ما يستغرب صدوره عنه، وإن كان من قبيل الشعريات وكذا ما يصف به نفسه بالتبع لأستاذه من الدعوى لم تُعهد منه البتة". وفى كتاب "منهج المدرسة العقلية فى التفسير"، وجه للأفغانى تهما كثيرة، ومن تلك التهم: الإلحاد: إذ قال عنه تلميذه النصرانى "سليم العنجوري" فى "شرح ديوان سحر هاروت" عند ترجمته له: إنه سافر إلى الهند وهناك أخذ عن علماء البراهمة والإسلام أجل العلوم الشرقية والتاريخ، وتبحر فى لغة "السانسكريت" أم لغات الشرق، وبرز فى علم الأديان حتى أفضى به ذلك إلى الإلحاد والقول بقدمية العالم، زاعماً أن الجراثيم الحيوية المنتشرة فى الفضاء هى المكونة بطرق وتحول طبيعيين ما نراه من الأجرام التى تشغل الفضاء ويتجاذبها الجو، وأن القول بوجود محرك أول حكيم وهم نشأ من ترقى الإنسان فى تنظيم المعبود على حسب ترقيه فى المعقولات!! وهذه هى عقيدة حكماء مصر القديمة، التى تتبناها الماسونية من وراء حجاب، وتظهِرها فى فترات متباعدة، وفى مقاسات متعدِّدة، إذ أن فلسفة الكابالا اليهودية القائمة على إرثٍ فرعونى قديم تقوم على أساس أن الكون تشكَّل بنفسه وتطور تلقائياً بعوامل المصادفات العشوائية. والمثير للدهشة هنا أن هذه الفلسفة المصرية الوثنية هى الفلسفة التى شاعت وانتشرت فى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، من قبل أنصار "نظرية التطور" و"نظرية الفوضى" لاسيما فى مجموع طروحات "ماركس" و"دارون" مع فلسفة هيجل، إلاَّ أن الأفغانى رجع إلى المصادر القديمة. كما اتهمه بعض علماء الأزهر بالإلحاد أيضاً، ومنهم الشيخ عليش مفتى المالكية، بل حتى المستشرق البريطانى (ايلى كدوري) كان يعتبر الأفغانى ملحداً، ودليله على ذلك عبارةُ للأفغانى خلال محاورة له مع المستشرق الفرنسى "رينان" يقول فيها: "لا تقطع رأس الدين إلا بسيف الدين". وكذلك كان "كادوري" يعتبر تلميذ الأفغانى "محمد عبده" ملحداً، مستدلاً بقول الشيخ محمد عبده فى رسالة لأستاذه بتاريخ 8 شعبان سنة 1300ه : "نحن الآن على سنتك القويمة لا تقطع رأس الدين إلا بسيف الدين، ولهذا لو رأيتنا لرأيت زهادا عبادا ركعا سجدا لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ..". والحاصل أن تلامذة الأفغانى ساروا على نفس طريقة شيخهم، وهى محاربة الدين باسم الدين، كما قرر ذلك الشيخ محمد عبده شخصيا، وبقلمه أيضاً. وقد اشتهرت عنه هذه التهمة، ولعل ذلك هو ما جعله يكتب رسالته فى الرد على الدهريين مع أنه من أكابرهم ليدفع عنه هذه التهمة. يقول شيخ الإسلام مصطفى صبرى عن محمد عبده فلعله وصديقه أو شيخه جمال الدين أرادا أن يلعبا فى الإسلام دور "لوثر وكالفين" زعيمى البروتستانت فى المسيحية، فلم يتسنَّ لهما الأمر لتأسيس دين حديث للمسلمين، وإنما اقتصر تأثير سعيهما على مساعدة الإلحاد المقنع بالنهوض والتجديد. التهمة الثانية الموجهة للأفغانى القول بأن النبوة مكتسبة :إذ فى بلاد الأناضول رماه علماء الأستانة بالإلحاد والمروق من الدين إثر محاضرة ألقاها فى دار الفنون، ذكر فيها أن النبوة صناعة مكتسبة، وحكى عنه شيخ الإسلام فى الدولة العثمانية "حسن افندى فهمي" أنه جعل النبوة صنعة وسوّى بينها وبين الفلسفة، فأمر شيخ الإسلام الوعاظ وأئمة المساجد أن يهاجموه حتى اضطر لمغادرة الأستانة. وحدة الوجود :وصف الشيخ رشيد رضا تلميذ تلميذه محمد عبده الأفغانى بأنه كان يميل إلى وحدة الوجود التى تشتبه فيها كلام الصوفية بكلام الباطنية، يقول رشيد رضا: كان يميل لوحدة الوجود التى يشتبه فيها كلامه مع كلام الصوفية الباطنية. ويؤيد ما قاله رشيد رضا ما قاله تلميذ آخر للأفغاني، وهو أديب إسحاق عندما قال فيه: "كان يميل للتصوف فى بدء حياته فانقطع حينًا بمنزله يطلب الخلوة لكشف الطريقة وإدراك الحقيقة ثم خرج من خلوته مستقر الرأى على حكم العقل، وأصول الفلسفة القياسية". القول بوحدة الأديان :حيث اشتهر عنه القول بوحدة الأديان، ولا نحتاج كثيرا من الأدلة لإثبات هذه التهمة لكونها من ثمرات الاعتقاد بوحدة الوجود، كما أن صِلاته باليهود والنصارى ودولهم، وكذلك صِلاته بغيرهم من أهل الملل تؤكد هذا الأمر، وكذلك انتسابه وترؤسه للمحافل الماسونية التى تدعو إلى ذلك بكل صراحة ووضوح. يقول "شيخ الإسلام" فى الدولة العثمانية مصطفى صبرى عن دعوة الأفغانى ومحمد عبده: "وأما الدعوة الإصلاحية المنسوبة إلى محمد عبده فخلاصتها أنه زعزع الأزهر عن جموده على الدين، فقرب كثيراً من الأزهريين إلى اللادينيين، ولم يقرب اللادينيون إلى الدين خطوة، وهو الذى أدخل الماسونية فى الأزهر بواسطة شيخه جمال الدين، الأفغانى كما أنه شجع قاسم أمين على ترويج السفور فى مصر". ويقول تلميذه محمد عبده: "وإنا نرى التوراة والإنجيل والقرآن ستصبح كتباً متوافقة وصحفاً متصادقة يدرسها أبناء الملتين ويوقرها أرباب الدينين فيم نور الله فى أرضه ويظهر دينه الحق على الدين كله". القول بنظرية النشوء والارتقاء :واشتهر عنه القول بنظرية النشوء والارتقاء، وهى تهمة متفرعة عن التهمة الأولى الإلحاد يقول الشيخ رشيد رضا عن الأفغانى: "وكلامه فى النشوء والترقى يشبه كلام داروين". ومازال الحديث ممتدا ... [email protected]