في أعقاب التفجيرات الإرهابية التي ضربت كنيستين أمس ، في طنطا والاسكندرية ، وخلفت عشرات الضحايا الأبرياء ، اجتمع الرئيس عبد الفتاح السيسي بمجلس الدفاع الوطني ، وخرج من الاجتماع ليعلن حالة الطوارئ في البلاد ، كما يعلن عن تشكيل ما يسمى بالمجلس الأعلى لمواجهة الإرهاب ، وقرر نزول القوات المسلحة إلى الشوارع من جديد لحماية المنشآت العامة ودور العبادة ، وعندما نقدم حسن النية في مثل هذه القرارات فإننا نؤكد على أنها قرارات خاطئة وليست مدروسة ولا تخدم الصالح العام ولا تخدم مكافحة الإرهاب أيضا ، إن لم تكن تغذيه وتفاقم من مخاطره . حالة الطوارئ التي منح الدستور صلاحيتها لرئيس الجمهورية حصرها في أحوال واضحة وهي : (تعرض النظام العام في البلاد أو في منطقة منها للخطر، سواء كان ذلك بسبب وقوع حرب أو قيام حالة تهدد بوقوعها، أو حدوث اضطرابات في الداخل أو كوارث عامة أو انتشار وباء) ، والأعمال الإرهابية التي تحدث بين الحين والآخر في القاهرة وبعض المدن لا تنضوي تحت أي من الأمور السابقة ، فلا النظام العام يتعرض للخطر ولا هناك حرب ولا تهديد بها ولا كوارث عامة ولا أوبئة شاملة ، جرائم أمنية تتعامل معها الجهات الأمنية المحترفة على قدرها ، ولا تحتاج إلى قوات مسلحة ولا أي إجراءات استثنائية ، فعندما يقوم صبي أو شاب صغير السن بتحزيم نفسه بحزام مشحون بالمتفجرات لينفجر به في تجمع بشري أو دور للعبادة ، ما صلة ذلك بمنح رئيس الجمهورية الحق في رقابة الصحف ومصادرتها والسيطرة على أجهزة الإعلام ومراقبة جميع رسائل الناس بما فيها الأحزاب السياسية وغيرها بمختلف صورها ووسائلها ، ما دخل هذا بذاك ، وما قيمة أن تنزل بالدبابات لمواجهة هذا الصبي ، الدبابات تنزل لمواجهة هجمات مسلحة واشتباكات محتملة ، لكن هذا الصبي الصغير المتزنر بحزام ناسف أو يزرع عبوة ناسفة بدائية بجوار شجرة أو عامود كهرباء هل يحتاج إلى الدبابات والمدرعات والصواريخ لمنعه ، هو فقط يحتاج إلى ذكاء أمني ، وقدرات معلوماتية عالية ، وتجهيزات حديثة وكاميرات ، وتدريبات على مستوى عال للكوادر الأمنية التي تدير المنظومة الأمنية ، أنت هنا أمام تحدي صراعات عقول وليس عضلات . وعندما نستحضر تاريخنا وواقعنا مع الطوارئ وسنينها ، سنجد أن أسوأ الحوادث الإرهابية التي وقعت في مصر كانت في ظل حالة الطوارئ ، فاغتيال رئيس الجمهورية نفسه ، أنور السادات ، تم في ظل إعلان حالة الطوارئ ، واغتيال رئيس مجلس الشعب الأسبق ، رفعت المحجوب ، وطاقم حراسته الستة بالكامل ، تمت في ظل حالة الطوارئ ، واغتيال وكيل جهاز مباحث أمن الدولة وقيادات أخرى في الجهاز ، تمت في ظل حالة الطوارئ ، وثورة يناير نفسها قامت في ظل حالة الطوارئ ، وكل ما حصدته مصر في حالة الطوارئ كان فقط التضييق على الحريات العامة بل ومصادرتها غالبا ، وتهميش الديمقراطية ، وإطلاق يد الأجهزة الأمنية للسيطرة على الجامعات والمؤسسات الثقافية والدينية ووسائل الإعلام المختلفة وخنق منظمات المجتمع المدني وخاصة الحقوقية وملاحقة نشطائها والتلاعب بالأحزاب السياسية المعارضة وإضعافها وتهميشها وتفجيرها من الداخل وإفساد الجهاز الإداري للدولة لتسهيل تزوير الانتخابات البرلمانية والرئاسية والاستفتاءات وما شابه . ولا تصح هنا استسهال المقارنة بما جرى في تركياوفرنسا ، ففي تركيا كان هناك انقلاب عسكري قادته منظمة سرية ضخمة اخترقت الجيش والمخابرات ونزلت بدباباتها في الشوارع واستخدمت طائرات حربية لقصف البرلمان ومحاولة قصف القصر الجمهوري ، فبديهي أن تعلن الطوارئ ، وهذا وضع مختلف كلية عما يجري في مصر ، وبخصوص فرنسا فالطوارئ وصلاحياتها هناك تختلف تماما عن الطوارئ وصلاحياتها هنا ، اللافتة واحدة صحيح ، لكن التفاصيل مختلفة بالكامل ، كما إن الميراث الديمقراطي والمؤسسي ومستويات الشفافية السياسية والقانونية في فرنسا يمثل حصانة كافية من سوء استخدام الأجهزة الأمنية للطوارئ ، وهو الأمر الغائب تماما عن مصر كما نعلم جميعا ، ورغم إعلان الطوارئ في فرنسا عدة أشهر إلا أن شيئا على الإطلاق لم يتغير في عادات الدولة وسلوكها وحريات الناس وقيم الديمقراطية والزخم الإعلامي والسياسي ، ويستحيل على الزائر أو المواطن أن يشعر أو يدرك أن هناك حالة طوارئ معلنة ، كل ما هنالك أنه منح الجهاز الأمني مرونة أكثر في متابعة "المشتبه" فيهم حصريا ، وليس تحزيم الحياة العامة ومصادرة الحريات . وعندما نصل إلى تجربة مصر الحالية مع الطوارئ ، حيث كانت هناك أحداث إرهابية تقع في شمال سيناء ، فأعلنت السلطات حالة الطوارئ منذ أربع سنوات ، فماذا كانت النتيجة ، النتيجة أن الإرهاب توحش وازداد اتساعا واكتسب زخما جديدا من شباب غاضب ومحبط وازدادت عملياته وحشية وتدميرا ، في نفس الوقت دمرت إجراءات الطوارئ معالم الحياة في العريش ورفح والشيخ زويد وهجرت عشرات الآلاف من الأسر ودمرت البيوت وأزيلت أحياء بكاملها وعطلت المصالح وتحولت الحياة إلى كابوس ، وباختصار خسرت مصر والشعب المصري من الطوارئ هناك ، وربح الإرهاب . اللجوء إلى إعلان الطوارئ يكشف عن "كسل" سياسي ، وغياب الرؤية الشاملة والعميقة لمجابهة ظاهرة الإرهاب ، وغياب الشجاعة عن الاعتراف بالتقصير الأمني ، والبحث في تطوير المنظومة الأمنية ، فالأمن الفاشل لن تمنحه الطوارئ نجاحا ، وإن كانت ستمنحه نفوذا على المجتمع الذي هو ضحية الإرهاب أساسا ، اللجوء إلى الطوارئ هو نزعة سلطوية للسيطرة على الحياة السياسية وتخويفها ولجمها ومحاصرة الإعلام والصحافة والمثقفين والحقوقيين والنشطاء المدنيين وتقليص ما تبقى من مساحة للحريات العامة ونشر الرعب والخوف بين المدنيين ، والأخطر من ذلك أن تلك الأجواء الكئيبة والخانقة والتي تتخللها مظالم رسمية كثيرة مقصودة أو غير مقصودة تمثل بيئة المستنقع النموذجية لتفريخ عناصر جديدة للإرهاب ، واستقطاب أجيال جديدة من الشباب له ، ومن ثم اتساع نطاقه وصعوبة أكبر للسيطرة الأمنية عليه ، لأن أجيالا جديدة غير معروفة ولا مسجلة ستفاجئك كل حين . باختصار ، هناك نزوع سلطوي واضح منذ 3 يوليو للسيطرة الشاملة على الحياة السياسية ومصادرة الفضاء العام في مصر ، وإخضاع كل القوى السياسية والمدنية ، والسياسات الرسمية الحالية مقبلة على قرارات اقتصادية عنيفة وثقيلة الوطأة على الناس ومن المتوقع ردات فعل شعبية غاضبة حيالها ، وأخشى أن يتجه البعض إلى اتخاذ أحداث الإرهاب الإجرامية ذريعة لتلك السيطرة التي تسحق أي معارضة وترهب أي صوت يفكر أن يقول : لا ، للسلطة الحاكمة ، وهي ذرائع سهلة ورخيصة ومستمرة ، منذ يوليو 52 وحتى اليوم ، خمسة وستون عاما متواصلة من الطوارئ ، وست رؤساء جمهورية منذ تأسيس الجمهورية ، والبلد يديرها تعليما وثقافة وإعلاما ودينا واقتصادا وسياسة الأجهزة الأمنية بمختلف أنواعها ولافتاتها ، ثم يسأل السائل ببراءة : لماذا تمضي مصر كل تلك السنين من سيء إلى أسوأ ، ولماذا تخلفنا وتقدم الآخرون . https://www.facebook.com/gamalsoultan1/