الأحداث التى شهدتها منطقة العباسية خلال الأيام الماضية، راح ضحيتها "تسعة أشخاص"، برصاص من مجهولين ملثمين نفذوا مجزرة بدعوى حماية عرين المجلس العسكرى الذى صور له إعلام الفلول أن غزوة تستهدفه، وأن مليونية الزحف ستتوجه إليه. فى مشهد جنائزى حزين، شيع أهالى العباسية جثامين ذويهم، وكانت أول جنازة للشابين مصطفى إسماعيل حسين السيد على، 26 سنة، ورأفت رضا نبيل بدران، 20 سنة. التقت "المصريون" بأهالى الضحايا لكشف المستور ومعرفة المتسبب الحقيقى فى هذه الأحداث، ومن وراء مقتل رأفت ومصطفى الشابين المشهود لهما بحسن السير وصفاء الأخلاق وهدوء الطباع. يقول حسين، 36 سنة، الأخ الأكبر لمصطفى: شقيقى المرحوم مصطفى حاصل على بكالوريوس سياحة وفنادق، ومعروف بأخلاقه الحسنة وسط أهالى المنطقة والأصدقاء، وكان يستعد لزواجه بعد شهور قليلة ولكن حكم القدر كان أسرع، كانت الحياة على ما يرام إلى أن امتلأت العباسية بجموع المتظاهرين الذين أثاروا الشغب والبلبلة بين الأهالى وامتلأت القلوب بالذعر والخوف بسبب إطلاق الرصاص الحى والمطاط والتراشق بالحجارة.. مصطفى كان يعمل بالسياحة ولا يعرف شيئاً عن الاعتصامات والمظاهرات، يفضل الوحدة والهدوء ويحب عمله، وكان مشهودًا له بالالتزام والاستقامة من رؤسائه حتى يوم الأربعاء الأسود الموافق 2/5 حيث زاد إطلاق الأعيرة النارية والقنابل المدوية، خرج مصطفى من منزله ليطمئن على أبناء عمه وأصدقائه، ولكن كان العدو الغائر متربصًا له برصاصة غدر أصابته فى رأسه، وعندما سمعت ضرب النار حاولت الاتصال بمصطفى مراراً وتكراراً فلم يرد، وأخيراً رد على ابن عمى أحمد، وقال يا حسين، مصطفى فى مستشفى دار الشفاء لأنه انضرب بالنار بعد أن قام أحد القناصة الموجودين أعلى مسجد النور بتصويت بندقيته وأطلق عليه الرصاص الحى، وكان ذلك فى تمام الساعة الثالثة فجراً، وكان الخبر كالصاعقة.. خرجت من منزلى وسط تبادل إطلاق الأعيرة النارية والأهالى يحملون المصابين وسط الظلام ويحاولون الذهاب بهم إلى المستشفيات التى أعلنت حالة الطوارئ، سمعت رجلاً يقول: يا جماعة فى واحد استشهد اسمه "مصطفى"، سألته شكله إيه؟ فقال عينه خضراء وأبيض اللون وأصفر الشعر.. أسرعت إلى المستشفى ووجدت تجمهرًا من أصدقائه وأولاد عمه، وعرفت أنه تم نقله لغرفة الرعاية المركزة، ذهبت إليه فوجدت أخى إسلام يبكى ويقول: مصطفى مات يا حسين، ابنك مات يا أخويا، لأن مصطفى يتيم الأب وأنا الذى قمت بتربيته بعد وفاة والدى، لم أصدق إلا عندما وصلت لثلاجة الموتى ووجدت أخى داخل الثلاجة والدم يسيل من جسده وأنفه بها ورم كبير، فأخذت أردد: "ده مش مصطفى ده مش مصطفى.. الكلام ده كدب.. إصحى يا مصطفى.. فوق يا واد.. أمك ما تعرفش حاجة.. قوم بلاش هزار ده مش وقته". ويواصل حسين: حاول العاملون وأقاربى تهدأتى وإخراجى من الثلاجة وسط صراخ وبكاء شديدين، وفجأة هجم البلطجية على المستشفى وحاولوا قتل المصابين، وكانت الساعة وقتها الرابعة فجراً، لدرجة أن هناك شابًا كان بسيارة الإسعاف ومصابًا بإصابات بالغة قاموا بضربه حتى لفظ أنفاسه الأخيرة، وتجمع الأطباء بغرفة واحدة وأغلقوها عليهم وتركوا المرضى خوفاً من بطش البلطجية، وبدأ أهالى المصابين والمرضى وأمن المستشفى فى الدفاع عن أنفسهم، وتم تبادل الأعيرة النارية داخل المستشفى حتى سيطر الأمن. وفى تمام الساعة الخامسة فجراً تم نقل صديق مصطفى ويدعى رأفت إلى الثلاجة بعد أن لفظ أنفاسه الأخيرة هو الآخر، وفى تمام الساعة الثانية ظهراً، قام العمال والأهل بتغسيل جثة مصطفى وما زالت الدماء تسيل منه، ووسط صراخ الأهالى والبكاء والعويل تم نقل جثة مصطفى إلى مشرحة زينهم التابعة لمصلحة الطب الشرعى، ليقوم الأطباء بتشريحه وإصدار تقرير يبين سبب الوفاة، وفور خروج جثة مصطفى من المشرحة نظرت إليه وكأننى أودعه الوداع الأخير، فوجدت رأسه مقسومة إلى نصفين بعد أن قام الأطباء باستخراج الرصاص والدماء تسيل منه، وورم واضح بوجهه، وقام العمال بتغسيله ثانية، وتم نقل الجثة لمسجد السيدة نفيسة للصلاة عليه فى تمام الساعة الخامسة والنصف، ثم انتقلنا إلى مدافن الغفير بصلاح سالم لدفن الجثة وسط جنازة مهيبة مرددين: لا الله إلا الله مصطفى الشهيد حبيب الله. أما والدة مصطفى، فقد أصيبت بحالة هستيرية، فكانت تزغرد وسط جموع الجنازة، وتقول ابنى عريس راح لربنا، ثم تعود لتبكى وتصرخ، وتقول إنت فين يا مصطفى اتأخرت ليه يا واد انت عايزنى أزعل منك ده انت لسه مقبل رجلى وقلت لى سامحينى يا ماما أنا هموت شهيد، لدرجة أنها حضرت وسط عزاء الرجال ونظرت إلى الصورة الكبيرة التى وضعناها لمصطفى بحجم الحائط، ثم قالت: "أنا كنت عارفة إنك هنا علشان كده جيت أجيبك علشان نروح ونتغدى"، الأمر الذى أدى إلى بكاء الجميع. أما "إسلام" الأخ الأوسط لمصطفى، فيقول: أنا شوفت أخويا وهو بينضرب بالنار، وعندما سمعت ضرب النار ذهبت للاطمئنان عليه وكان بخير، وفجأة وأنا أسير معه وجدت ضوءًا شديدًا تم تسليطه على وجه مصطفى أعقبه إطلاق رصاصتين أصابتاه فى رأسه مباشرة، ثم سقط على الأرض وسط بركة من الدماء، وعلى الفور، حملته بمساعدة ابن عمى لأذهب به إلى المستشفى، وفى الطريق سألته: حاسس بإيه يا مصطفى؟ فقال صداع.. صداع.. خلاص..، فأسرعت بنقله إلى مستشفى "دار الشفاء"، وأنا أقول: "إلحقونى يا ناس أخويا بيموت.. اجمد يا مصطفى ووحد الله وصلى على النبى انت بخير ياحبيبى"، وفى غرفة العناية المركزة، تم تركيب جهاز القلب والأجهزة الضرورية، ولم يمض سوى دقائق وعلى السرير المجاور لمصطفى بنفس الغرفة حضر صديقه "رأفت"، وبعد دقيقتين من تركيب الأجهزة قالت الممرضة البقاء لله رأفت مات، ولم يمض سوى عشرة دقائق وقالت: "وده كمان مات.. يا ريت تشيلو الجثث للثلاجة عشان الدم مغرق المكان". وجدت نفسى أصرخ وأقول: "أخويا عايش أنتم كدابين، قوم يا مصطفى، ماما عايزاك، دى هتموت علشانك.. شيماء أختك قالت لك ما تتأخرش عليها علشان خايفة من ضرب النار إنت هتتأخر ولا إيه؟". وفى منزل الشهيد رأفت رضا نبيل بدران، التقيت بأبيه الذى دخل فى نوبة من البكاء استمرت لأكثر من نصف ساعة وهو ينادى رأفت.. يا رأفت، إنت فين يا حبيبى.. هوه انت مت بجد يا حبيب بابا، ثم يردد: رأفت طالب بأكاديمية الكمبيوتر.. رأفت شاب جميل جداً وهادئ وجدع.. طوب الأرض بيحبه والناس هتموت عليه، جنازته كانت جنازة شعبية كل الناس جاءت كى تودعه بس أنا لم أودعه لأن رأفت راجع.. رأفت بطل مش بلطجى. ويواصل والد رأفت: فى هذا اليوم دخل البلطجية المنازل وضربوا الأهالى بالرصاص الحى وهم يقولون الله أكبر.. حى على الجهاد.. ثم يوجهون البنادق والرشاشات صوب المنازل، رأفت خرج يطمئن على أصحابه بالقرب من المنزل، فوجد صديقه "أحمد" يضربونه البلطجية ويحاولون قتله، فاشتد غضبه وقرر أن يدافع عن صديقه، فقام أحد القناصة بتصويب المسدس عليه وأطلقوا الرصاص على رأسه وأصابوه بطلق استقر فى رأسه، وسالت دماء رأفت البطل على الأرض، ولم يكتف البلطجية بذلك، بل سحبوه على الأرض وضربوه داخل مسجد النور، وتجمع حوله أصدقاؤه فى محاولة منهم لإنقاذه ونقله لمستشفى دار الشفاء، وهناك لفظ أنفاسه الأخيرة. أما جدة رأفت فتقول: أنا أم رأفت اللى تعبت فى تربيته.. دم رأفت على الأرض لكن رب السماء موجود ومطلع وإن شاء الله الحق هيظهر، أنا لما شوفت جنازة رأفت دخلت السكينة والطمأنينة فى قلبى، وعرفت أن رأفت هيعيش طول عمره فى قلب الناس.. رأفت دفع حياته علشان ينقذ صديقه.. وأما خاله فيقول: أنا اللى ربيت رأفت وكنت له الأخ والصديق والأب وكان هيخطب فتاة جارته بعد حب استمر لأكثر من عامين.