إن الشريعة ليست شخصا يتكلم توجه له السؤال فيعطيك الجواب مباشرة، ولا هي مقننة أي مدونة في كتاب على شكل مواد قانونية يرجع إليها، بل هي في الأساس مجموعة نصوص منها الإلهي وهو القرآن الكريم، ومنها البشري وهو غالبية السنة النبوية وآراء الفقهاء في الاثنين، والقرآن فيه المحكم والمتشابه، وهو وإن كان قطعي الثبوت بالتعبير الأصولي، إلا أنه ليس قطعي الدلالة في عمومه، كما أن نصوصه قطعية الدلالة وإن كانت ثابتة لقدسيتها المطلقة، فهي لا تستغنى عن دور من تخاطبه، وهو العقل البشرى المأمور بالتفكر فيها لتحديد مقاصدها وإسقاطها على الواقع؛ فالأحكام معللة بمقاصدها، وتدور معها وجودا وعدما، ومما يؤكد أن الشريعة لا تتكلم بنفسها قول الإمام على ابن أبى طالب في مصدرها الأول، وهو القرآن عندما طالب معاوية بن أبى سفيان بتحكيمه في النزاع بينهما «: إن القرآن بين دفتي المصحف لا ينطق وإنما يتكلم به الرجال». ومن ثم كان في تحديد معنى الشريعة ومكوناتها وعلاقتها بالسياسة وهل هي إلهية أم بشرية إجابة على كافة التساؤلات الأخرى الجوهرية في قضية تجديد الخطاب الديني مثل طبيعة الدولة ونظام الحكم، فلو كانت الشريعة تعني نظام الحكم وهي إلهية بحته، فلابد إذاً أن يكون الحكم إسلاميا، ولابد لدين الإسلام من دولة، وإلا فلا، ورغم أنه لا يوجد ذكر لمصطلح شريعة بوصفه نظام حكم لا في القرآن ولا في السنة الصحيحة، إلا أن المسلمين اقتتلوا باسمها سنين عددا ولا يزالون، وكان السبب الحقيقي هو السلطة، وهو ما يعبر عنه الشهرستاني في "الملل والنحل" بقوله: "وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة إذ ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة في كل زمان"، فلم يكن الصراع في بدايته دينيا بل سياسيا بحتا حول الخلافة أي السلطة والحكم، ثم وظف الدين كمحاولة لتدعيم المواقف المتعارضة، وهو أحد أسباب ظهور الفرق الكلامية التي اكتست بثوب عقائدي يخفي ورائه جدلا سياسا وصراعا ملتهبا. عادة ما يفرق الفقهاء بين مجالين للشريعة: العبادات الثابتة والمعاملات المتغيرة، دون وضع تحديد دقيق لنطاق المجالين، ولقد حاول يوسف القرضاوي في كتابه "الإسلام والعلمانية وجها لوجه" أن يضع حدا بينهما فأضاف إلى مجال العبادات الثابتة القيم الدينية والأخلاقية الخالدة ومنها العقائد وأركان الإسلام الخمس، بينما أدرج تحت المعاملات المتغيرة الأمور الدنيوية السياسية والعلمية، ولكن هذا التحديد يظل في إطار العموميات؛ حيث لم يبين بوضوح علاقة الشريعة بطبيعة إدارة الدولة وسن قوانينها، أهي من الثوابت الدينية أم من المتغيرات السياسية، رغم ما يوحي به تحديده من ربطها بالمجال الثاني، ولذا كان ضروريا البحث عن الحكمة في كل مجال، فبعكس العبادات التي لا يعلم حكمة كيفيتها إلا الله تعالى ترجع الحكمة في الأمور الدنيوية السياسية إلى تجارب العقل البشري وتفاعله مع احتياجاته وما يحقق المصلحة حسب ظرفي الزمان والمكان المتغيرين، وفي هذا الصدد يطالب السنهوري في كتابه "فقه الخلافة" بإحداث مفاهيم جديدة تتماهى مع العبادات والمعاملات مثل القانون الإسلامي وقصر الشريعة على العبادات. هذا ولم تكن سياسة الواقع وضرورة إخضاع تدابير الدنيا غائبة عن كثير من الفقهاء إذا ما نظروا نظرة عملية واقعية لسياسة الكون مثلما كان من العز بن عبد السلام الذي يرى في "قواعد الأحكام" أن "توافق الشريعة مع الطبيعة وأن معظم مصالح الدنيا ومفاسدها معروف بالعقل وأن مصالح الدنيا والأخرة معا تعرف بالشرع أما مصالح الدنيا وأسبابها ومفاسدها فتعرف بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات ومن أراد أن يعرف المصالح والمفاسد راجحها من مرجوحها فليعرض ذلك على عقله بتقدير أن الشرع لم يرد به ثم يبنى عليه الأحكام فلا يكاد حكم منها يخرج عن ذلك إلا ما تعبد الله به عباده ولم يقفهم على مصلحته أو مفسدته وبذلك تعرف حسن الأفعال وقبحها". وهذا النهج يساعد في تقنين ما يعرف بمقاصد الشريعة من حيث أنها تهدف لتحقيق مصلحة الإنسان ومن ثم فللإنسان تحديد ماهية مصلحته الدنيوية الراجعة إليه وتكييف النص معها بعكس ما جاء به النص من الأمور التعبدية فهي راجعة إلى الله، وليس للإنسان أن يبحث عن علة لكيفيتها، وعليه الامتثال لها هكذا كرمز للعبودية والطاعة للخالق. من الممكن إذاً ربط معنى الشريعة بالدين أي التوحيد والانقياد لإله واحد، وهي تعني هنا الأحكام التعبدية التي يقوم بها الدين، أما الجانب المعاملاتي الدنيوي السياسي فهو محل اجتهاد الإنسان يصوغه بالكيفية التي تحقق له المصلحة الدنيوية، بمعنى أن الجزء الخاص بالعقيدة والعبادات من الشريعة كالصلاة والحج ذو طابع ديني وينظمه النص وهو كاملة لا يقبل الإضافة، أما الجزء الخاص بالمعاملات وبتنظيم الشؤون السياسية والاجتماعية فهو متطور حسب الظروف وهو الجزء القانوني، أي أن الدين هو العقيدة والعبادات، والمعاملات هي القانون المتغير بحسب الأحوال، وارتبطت أحكام العبادات بالشرع في حين أن الشرع كما يرى الغزالي انطلق في غير العبادات من مراعاة الظرف والمصلحة وهما متغيران أي أنه قام على الظن لا القطع حيث يقول في "المستصفى": "أغلب عادات الشرع، في غير العبادات، اتباع المناسبات والمصالح، دون التحكمات الجامدة؛ فتنزيل حكمه عليه أغلب على الظن." Dr. Assem Hefny Akademischer Rat Centrum für Nah- und Mittelost- Studien (CNMS) مركز الدراسات الشرق أوسطية Universität Marburg