"سيناء مابقاش فيها أمان.. بيوتنا اتخربت ومش عارفين نعيش" العبارات الأكثر ترددًا على ألسنة أسر أقباط العريش النازحين من الموت وويلات الاضطهاد العنصري، كونهم مسيحيي الديانة، يذبحون على أيدي الإرهابيين بسيناء، لاسيما في الفترة الأخيرة وإصدار "تنظيم ولاية سيناء" مقطع فيديو هدد فيه بالتصعيد واستهداف ما أسماهم وشبههم ب"الصليبيين" في كل ربوع مصر وخاصة المقيمين بالعريش في حالة عدم الرحيل عن المدينة. عانى أقباط العريشوسيناء عامة منذ ثورة 30 يونيو على الكثير من الصعاب المعيشية والحياتية، بعد قيام المسلحين من تنظيم الدولة بعمليات ممنهجة ضد أقباط مصر، ما دفع الأقباط إلى الرحيل من سيناء واللجوء للكنائس في المحافظات الأخرى، نجاة من الموت. الإسماعيلية ملجأ الوافدين بدأت الأسر القبطية في التوافد إلى الكنيسة الإنجيلية بمحافظة الإسماعيلية، فالميكروباصات والسيارات الخاصة بشمال سيناء لم تتوقف عن ترحيل الأسر وتركهم أمام أبواب الكنيسة، فأكثر من 108 أسر وصلت إلى المحافظة، التى تعتبر من أقرب المحافظات للعريش. الأقباط قاموا بافتراش ساحة الكنيسة، ينتظرون دورهم فى الحصول على مكان يأويهم ويحمى أطفالهم الصغار؛ حيث وفرت الكنيسة شققًا بمدينة المستقبل بعضها يحتوى على الأثاث والآخر فارغ، سرعان ما تم تجهيزه من مساعدات أتت في الحال من أهالي الإسماعيلية. كما عملت وزارة الشباب والرياضة على فتح بيت الشباب التابع لها كسكن مؤقت لهؤلاء الأسر، بالإضافة إلى تسكين أسر بمعهد التأهيل المهني وآخرين بمعسكر القرش. روايات الموت على لسان النازحين في معايشة استغرقت يومًا كاملاً ل"المصريون" مع الأسر القبطية المتواجدة داخل بيت الشباب بالإسماعيلية، والذى أصبح كامل العدد، بأكثر من 43 أسرة وإجمالي 175 فردًا، تتم إقامتهم مؤقتًا بالمجان مع توافر الوجبات الثلاث. عندما تقترب من البوابة الرئيسية لبيت الشباب، تجد الأمن متواجدًا بكثافة بمحيط المبنى، وتشعر وكأن الحزن يعم على المكان بأكمله؛ فالأطفال والنساء والشيوخ والشباب به في حالة صمت دائم قليلاً عندما يتحدثون، يجلسون في حسرة وخيبة أمل وأعينهم تملأها الدموع على ماضيهم الذي قضوه في رعب وقلق وحبسة بالمنازل خوفًا من بطش الإرهاب، باكين على حالهم. وأكدت جميع الأسر ل"المصريون" أن مصيرهم مجهول لا يعرفون عنه شيئًا، وهل سيعودون إلى بيوتهم مرة أخرى بعد توفير حماية لهم، أم تنجح الدولة في توفير مساكن أخرى لهم، أم ماذا سوف يحدث لهم بعد انتهاء فترة استضافتهم المؤقتة بالبيت، والتى لم تطل بالتأكيد. من جانبه، أكد قدري فارس70 عامًا – أحد المهجرين- ، أنه قرر ترك منزله مع أبنائه العشرة الذين تشتتوا بالمحافظات، جاء مع زوجته وابنته وأسرتها و4 من أبنائه الآخرين بأسرهم للإسماعيلية، بينما هرب آخرون إلى القاهرة، ومازال هناك اثنان آخران بالعريش، لأن الوضع هناك أسوأ ما يكون، واصفًا ثورة 25 ب"ثورة الحرامية"، على حد وقوله. وأضاف: "الحياة باتت مستحيلة فى سيناء بالنسبة للمسيحيين، أنا مستهدف بالاسم وخلاص مبقاش ليّ لازمة بكره هموت ولكن أنا هربت عشان أبنائى وعيالهم، وتركنا حالنا ومالنا وبيوتنا، خرجنا في نص الليل، خائفين من أن يرانا أحد من الإرهابيين". "المصريون" التقت نبيلة حنا، إحدى المهجرات التي فقدت زوجها وابنها أمام أعينها في ليلة دموية واحدة، بحثنها عنها فى كل مكان، لنجدها تجلس بجوار غرفتها بأحد الأدوار داخل المنزل المعد للمهجرين، والتي روت تفاصيل ليلة الموت التى فقدت فيها أعز ما تملك. في البداية تقول: "قتلوا جوزى سعد حكيم وحرقوا ابنى مدحت ونهبوا وسرقوا بيتي وذهبي، كنت بستعد للنوم بغرفتى وفى الساعة الواحدة صباحًا، سمعنا الباب بيطرق، فتح ابنى، سالوا عن اسمه وبعد كده ضربوا بالرصاص، خرجت على الصوت وجدت مدحت على الأرض واتنين ملثمين أمامى، قاموا بإخراجى من المنزل، ودخلوا غرفة زوجى الذى لم يستطع السمع كويس نتيجة شيخوخته وقاموا بإطلاق رصاصتين عليه وهو يقول لهما: "أنا غلبان ماليش فى حاجة وحالي، وعند خروجهم سألوني عن ذهب أو نقود، فقولت لهم "أنا لا أملك شيء"، فقاموا بأخذ جميع الأجهزة الكهربائية ودبلة زواجى من صباع يدى، ثم قاموا بحرق المنزل". كما أوضحت إحدى الفتيات حديثة الزوج - رفضت ذكر اسمها-، خوفًا من التعرف عليها من قبل تنظيم الدولة التي أكدت أنهم على دراية كاملة بأسماء كل فرد مسيحي داخل العربش وكل شيء عنهم، وأنها كانت تلجأ في أحيان كثيرة إلى ارتداء الحجاب عند خروجها من المنزل لعدم تعرف الإرهابيين على هويتها، خاصة أن لديها طفلاً رضيعاً لم يتجاوز عمره الأربعة أشهر. شباب الأقباط: "لازم نترك البلد مفيش أمان" يقول مينا أحد شباب العريش النازح إن أحلام الشباب القبطي تحطمت فجأة وبدون سابق إنذار، مؤكدًا بقوله: "لو مش قادرين تحمونا سفرونا للخارج عشان نرتاح بدل لما نتقتل أو نتحرق زى اللي راحوا". وأضاف قائلاً: "نحن نعيش أسوأ أيام حياتنا والاستهداف علينا بيزيد يوم بعض يوم وكل شوية حد بيموت غدر مننا من قبل الإرهاب الغاشم، بيتم محاصرتنا داخل بيوتنا والكمائن على الطرق كثيرة وبنقول ومالوا كويس، بس فى بيوتنا مافيش أمان. وأوضحت إحدى السيدات القبطيات تدعى "سلوى" أن الحكومة مش قادرة توفر الأمان، فالأفضل الهروب من البلد، حتى يستطيع الجيش القضاء على التنظيم وقطع جذوره، مشيرًا إلى تواصل الترابط بين عنصري الأمة "المسلمين والمسيحيين" في مصر. كما أشار سيفين جرجس، مسن تعدى ال85 عامًا ويسير على عكاز ومرتديًا الجلباب الكشمير والعمة البيضاء، والذي ظل يبكى طوال اليوم وعند حديثه مع أي شخص يحاول التحدث معه، لدرجة أن كل من يجلس معه يجهش بالبكاء من كلامه المؤثر مع مرضه بأمراض الشيخوخة التي جعلت يسير بخطوات بطيئة للغاية. وأوضح أنه خرج من داره هو وعياله بعد حوالى 50 عامًا، يحمل ذكريات عمره وبيته ووطنه في شنطة سفر فيها شوية هدوم مع كام "كيس" فيهم هدوم للعيال الصغيرة.. خرجنا من بيوتنا إللى كانت سترانا واتمرمطنا فى الشوارع، حتى المقابر اتحرمنا منها وكنا بندفن في جزء من مقابر إخوتنا المسلمين والبعض كان بيذهب للدفن فى مقابر أخرى خارج المدينة. رفض العودة اجتمع أحد القساوسة والذي أرسلته كنيسة شمال سيناء مندوبًا عنهم مع بعض المهجّرين، يقنعهم بالعودة إلى ديارهم مرة أخرى، مؤكدًا حمايتهم، ولكنهم رفضوا كلامه وأبلغوه في نفس واحد أن أبونا قزمان هو من نصحهم بالهروب من المدينة فكيف يرجعون الآن. فيما أظهر قساوسة الكنيسة بالإسماعيلية، تعاملاً جديًا مع الأزمة منذ اللحظات الأولى من وصول أول أسرة، بجانب التبرعات التي انهالت عليها من مسلمي وقبطي المحافظة في الحال من أثاث وأدوات كهربائية ومنزلية للشقق الفارغة التي تم توفيرها. مأساة الأطفال رصدت كاميرا "المصريون" على سور البيت المطل على شاطئ بحيرة التمساح يوسف وبيشوي وهما ينظران إلى البحر وأمواجه ويترقبان المستقبل المجهول الذي ينتظرهما في حالة نفسية سيئة، مع وجود كمية خوف وآلام فى عينيهما. وعند سؤالهما عن عودتهما إلى مدينتهما أجاب الاثنان معًا: "إحنا خايفين نرجع تانى العريش، لو رجعنا هنموت زى ما مدرس الدين المسيحى بتاعنا اتقتل". وأضافت الطفلة نجاة صاحبة ال10 سنوات أنها لا ترغب في عدم العودة بسبب فقدانها مدرستها وبيتها وأصدقائها، فكان الإرهاب الغاشم وصوت الرصاص أقوى من أحلام تلك الصغار. أوصاف المسلحين قام أحد الأقباط في العقد الثالث من عمره بوصف الأشخاص الذين يدعون أنهم من يعملون على نصرة الإسلام، مؤكدًا أن الإسلام لم يستبح قتل النفس البشرية، قائلاً دينكم حثكم على حسن التعامل مع الأقباط ومن يحللون دم القبطي ليس منكم والإسلام بريء منهم. وأضاف: "يظهرون بالليل داخل البيوت ولغاتهم غريبة شوية ومغطاة الوجه ويلبسون بأرجلهم شيئًا شبيهًا بالبيادة العسكرية ولكنها ليست هي، كنوع من التمويه"، على حسب وصفه. كلام الحكومة المعسول منذ قدوم الأقباط إلى الإسماعيلية، وأصبحت ملتقى لزيارات وزراء حكومة شريف إسماعيل، فلم يمر يوم بدون وزير قادم إليهم ليلتقط الصور الفوتوغرافية، ويصرح بوعود ويغادر المكان والأوجاع والآلام كما هي. وكان أغرب تصريح وزاري لأسر الأقباط من الدكتورة غادة والي، وزيرة التضامن الاجتماعي "اعتبروا نفسكم بتتفسحوا وبتتشمسوا".