كان لافتًا أن تصدر نظريتا: "صدام الحضارات" و"نهاية التاريخ" من المحاضن الثقافية بالولاياتالمتحدة، وليس من أوروبا، رغم أن الأخيرة هي التي تستعر في بعض بلدانها ظاهرة الإساءة للإسلام أو التضييق على تجليات وجوده في نسخته الغربية.. هذه المفارقة في ذاتها، حاملة للتباين بينهما، فيما يتعلق بالوظيفة السياسية والاجتماعية والثقافية للدين. في أوروبا، لم يعد للمسيحية إلا قيمتها الثقافية فقط، إذ تحولت بمضي الوقت من "دين" إلى "هوية"، فإذا أسيء للمسيح في ذاته لا تغضب أوروبا، وإذا شعرت بأنها مهددة في هويتها تقيم الدنيا ولا تقعدها! وهذه هى أصل مشكلة "أوروبا" مع "الإسلام" الأوروبي.
ولذا فإن الأخيرة لا تبحث عن "الصدام" ولكن عن "التعايش" مع إسلام "خاص" متصالح مع "هويتها" المسيحية، لا يهددها ب"أسلمة" الشكل، بانتشار الحجاب والمساجد، أو ارتفاع مآذنها على أبراج الكنائس مثلاً، ومن ثم سيظل جدل "الأسلمة" و"النصرنة" في أوروبا في حدود البحث عن صيغة لهذا التعايش، بعيدًا عن الصدام "الديني" أو"الحضاري" المباشر والعنيف مع الشرق الإسلامي.
الدين في الولاياتالمتحدةالأمريكية يختلف اختلافًا حادًا عن وظيفته في أوروبا، فإذا كان في الأخيرة وكما أسلفت محض عاصم من الذوبان والاختفاء التدريجي، فإنه في الأولى جزء "خفي" من العقيدة السياسية والأمنية الأمريكية، والتي تتمتع بحضور أساسي ومحوري، في وضع الأجندات والسياسات وإدارة الأزمات الدولية. لقد كتب الأمريكي الشهير "مارك ستاين " في كتابه "أمريكا وحدها.. نهاية العالم كما نعرفها" عن الوظيفة الدينية للولايات المتحدةالأمريكية، مبينًا أنها الوحيدة التي ستحمي المسيحية من الإسلام، بعد أن تختفي أوروبا بالتدرج وتحولها إلى ولايات إسلامية.
لقد بين "برنارد لويس" أكثر بأن حروب الولاياتالمتحدة في العام الإسلامي تأتي في سياق "الكراهية" التي أفرزها "التنافس الألفي" بين الديانتين العالميتين "المسيحية والإسلام".
إذن "صدام الحضارات" يأتي في سياق الثقافة الأمريكية التي تميل إلى الصدام ونفي الآخر المخالف دينيًا لا التعايش معه، وذلك استجابة للوظيفة الدينية للدولة كما يراها مثقفون أمريكيون يملكون سلطات اعتبارية كبيرة على صانع القرار الرسمي الأمريكي.
في مؤتمر "دافوس" عام 2008، وردًا على ظهور جماعات تناهض بناء المساجد في أوروبا، قال النائب البرلماني السويسري السابق أولريخ شلور، رئيس لجنة مبادرة حظر بناء المآذن في سويسرا: "لا علاقة للمئذنة بالإيمان، وحرية الدين لا تُمس (من قبل المبادرة)، فالمئذنة رمز لإرادة تولي السلطة من قبل من يدافعون عن مفاهيم القانون، تلك (الشريعة) التي تتعارض مع تصورنا نحن".
هذه هي مشكلة أوروبا الحقيقية مع "الإسلام".. إنه "القلق الثقافي" على "هويتها".. وهو قلق مشروع يمكن تفهمه ويختلف كثيرًا عما هو عليه الحال في أمريكا، حيث بات "التطرف الديني" حاضرًا داخل النخبة الحاكمة ذاتها، مقابل تنامي "القلق الثقافي" داخل مؤسسات السيادة وصناعة القرار في أوروبا، ولذا فإن الأولى تحكم علاقاتها بالآخر "المخالف" الرغبة في "النفي" و"الإقصاء"، فيما تظل علاقة الثانية بالمخالف الديني والثقافي تحت سقف البحث عن وسيلة ل"التعايش" معه. كتبت هذا المقال عام 2008.. بعنوان مشكلة أوروبا وأمريكا مع الإسلام.. وغيرت عنوانه فقط اليوم ليكون مناسبًا مع الحدث.. فهل وجد صداه لدى الإسلاميين؟! عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.