كان للأستاذ مأمون أفندي ، حمار قوي البُنية ، عالي المنكبين ، ذو صحة جيدة ، تؤهله لأن يمشي أو يجري مسافات طويلة دون كلل أو تعب ، وكان الأستاذ مأمون معلم اللغة العربية بمدرسة القرية في أوائل الستينيات ، يمتطي حماره البهي ، ذو البردعة المستوية ، زاهية الألوان . وكانت أناقة المعلم ، المتمثلة في ارتدائه البدلة القماش والطربوش الأحمر، وحرصه علي نظافة حماره الأبيض، يجذبان الأنظار نحوهما بشكل دائم ، ويصنعان حالة من الإعجاب والسرور في أعين الناظرين إليهما في الطرقات ، وكان حضرة المعلم الفطن ، حريصاً علي تحية من يعرف ، ومن لا يعرف ، من فوق حماره ملوحاَ بيده ، ومُلقياً السلام – بصوتٍ عالٍ أجش – علي كل من يقابله في شوارع القرية ، أثناء ذهابه إلي عمله بالمدرسة في باكورة كل صباح . وكان لمأمون أفندي مجموعة مُقربة من صبية المدرسة ، من ضعاف التحصيل العلمي ، وكان أغلبهم ينتمي إلي أُسر متدنية الحال ، ورغم ذلك فقد إعتبر أن هؤلاء الصبيه المساكين ، هم خاصته ، وقد صاروا بالفعل طوع بنانه في أي شيئ يريد منه أن يعملوه له ، ظناً منهم أن هذا من باب إرضاء كرامة وهيبة معلمهم . ولهذا فقد عوَد الأستاذ مأمون هؤلاء الصبيه الغافلين بأن ينتظره علي باب المدرسة واحداً ، صباح كل يوم ، لكي يأخذ منه حماره الذي يمتطيه ، ويذهب به إلي حقول الأستاذ مأمون ، التي لا تبعُد كثيراً عن المدرسة ، ثم يُسلم الحمار " للعم عويس " ، هذا الأجير البسيط ، الذي يتولي شئون العمل والزراعة بحقول مأمون أفندي ، وتكون مكافأة الصبي، هو سماح الأستاذ مأمون له بالهروب ، بعيداً عن المدرسة ، ليلهو ويلعب طوال اليوم الدراسي ، دون تلقي دروس العلم أو التفكير في العودة للمدرسة !! بالفعل تعود بعض التلاميذ الكارهين والمستنفرين من المدرسة ، علي القيام بتلك المهمة الصباحية ، ثم الهروب للعب هنا وهناك ، أو الذهاب لتعلم حرفه يتكسب منها بعض الملاليم القليلة ، ليساعد أسرته في تحمل المسئولية ، وهو في هذه السن المبكرة ، أو ربما يرجع لينام في بيته أو أن يذهب ليساعد والده المزارع الفقير المسكين في أعمال الزراعة ، بعدما يقنع والده صاحب الثقافة البسيطة ، بأن هروبه من مدرسته أو الغياب منها ، شيئ مباح ، وخاصةً أنه بإذن من أستاذه الذي يعتبروه القدوه والمثل الأعلي في كل شيئ ، بينما لا يدري الأب المسكين أن إبنه يسلك سُبل الجهل والفشل ، بسبب الإنصياع وراء تهاون مأمون أفندي ، الذي تساهل في أمور لا تؤدي إلا بالضرر لصاحبها عاجلاً ثم آجلاً !! بدأ – بالفعل – صبيان الحمار يتجهون نحو ترك طريق التعليم شيئاً فشيئاً بسبب التوجيه الخاطئ ، من معلمهم غير النصوح ، في الوقت الذي عانت فيه الأسر البسيطة ، الفقر والعدم ، وجاهدت أملاً في تعليم أبناءها ليصبحوا – يوماً ما – أصحاب شأن عظيم في المجتمع ، بينما كان الإصرار ملازماً لهؤلاء الصبية المساكين ، لسحب حمار أستاذهم الذي لم يجلب لهم إلا الخيبة !! كان الشق الآخر من مهام صبية الحمار ، هو العودة إلي حقول مأمون أفندي ليتسلموا الحمار ” عويس ” الأجير، بعد أن يطمئن الصبي بأن حمار الأستاذ ، قد ملئ بطنه بالطعام من البرسيم الأخضر الطازج ، فيعود الصبي إلي المدرسة في موعد الإنصراف ، ممسكاً بلجام الحمار ، واقفاً خارج المدرسة ، يأبي دخولها ، لا يبالي بنظرات اللوم والسخرية والحسرة من أعين زملائه الفطناء ، مستديراً النظر ، ليلمح معلمه ، الذي ينادي عليه .. فيبادر الأستاذ مأمون بالقفز علي ظهر الحمار، فيسحب الصبي ، الحمار وفوقه مأمون أفندي عائداً إلي بيت الأستاذ !! يرجع الصبي إلي بيته فرحاً مسروراً ، بعد أداء مهمته ، معتقداً أن ما قام به من مهمة سحب لحمار أستاذه ، هو شيئ من قبيل الإخلاص أو الوفاء، وزيادة علي ذلك اعتبرها – التلميذ الكسول – حجة يومية ، وحيلة ذكية للهروب من المدرسة ، بينما لا يدري الطالب المسكين أنه دخل مغارة مظلمة مكتوب علي بابها ” مأوي المتسربون من التعليم ” ، وخاصةً مع تكرار انقطاعه عن المدرسة ، وهَجره للدروس وبُعده عن تلقي العلم ، والانصراف إلي اللعب في الشوارع ومرافقة الجهلاء والأغبياء وأصدقاء السوء . مرت الأيام تمضي والسنوات تنقضي وصارت قضية سحب حمار الأستاذ مأمون ، عادة لا تتجزأ من الروتين اليومي ، للصبية الناقمين علي التعلم ، بالمدرسة التي يعمل بها معلم اللغة العربية ، بسبب الانصياع لتعليمات الأستاذ ، الغير سوية وإسناده إليهم لمهمة كارثية ، حولت مصائر حيواتهم نهائياً !! صارت عملية سحب هذا الحمار مجالاً للتنافس والسباق اليومي بين الطلاب الفاشلين العاشقين للحمار أكثر من التنافس علي تلقي العلم الذي يلقنه لهم صاحب الحمار ، حتي أنهم صاروا يتسابقون صباح كل يوم نحو حمار مأمون أفندي ، لاستقباله ، والأخذ بلجامه اللامع ، لنيل رضا الأستاذ مأمون ، ورضا حماره . بدأت شعبية الحمار المسلي في الإزدياد ، بين الأجيال المدرسية المتتابعة بالقرية ، بل وصار الحمار مصدر فرح وسرور لكل من يشاهده وهو يتبخطر في مِشيته ، حاملاً علي ظهره صاحبه الأستاذ مأمون أفندي ، ولا يفكر الحمار أبداً في رفع إحدي قدميه لرفس من يمشي خلفه ، أو يعض بأسنانه الحادة من يسحبه أو يداعبه ، لكنه إلتزم الهدوء ، واعتاد الألفه مع الجميع ، ولهذا السبب صار للحمار كثير من الأصحاب والخلان والمؤنسين لطريقه ذهاباً وإياباً من المتسربين وفاقدي الرغبة في التعلم ، بل باتوا ينامون ويحلمون بمرافقة الحمار الذي صار في منزلة الصديق والرفيق في الطريق . كان شيئاً مخيباً للآمال ، أن يبدي مأمون أفندي اهتماماً بمصلحة حماره – وهو من جنس الحيوان – عن العناية والجديه بمستقبل الكثير من الأجيال التي جلست أمامه للتعلم ، والذين هم من بني البشر ، وتكريمهم واجب ديني وتفضيلهم أمر إلهي لا جدال فيه . أما الصبية الفطناء محبي العلم ، والذين نشئوا في بيوت ، تعي قيمة حب المدرسة ، فكانوا حريصين أشد الحرص علي مستقبلهم ودراستهم والانتظام في مدرستهم ، بمساعدة ذويهم وأولياء أمورهم ، ورفضوا تماماً أن يكونوا ضمن الفريق اليومي المعروف لسحب حمار الأستاذ مأمون ، وابتعدوا عن طريق الحمار الملبد بالجهل والحماقة ، وسلكوا طريق العلم والإستذكار والاجتهاد وتنظيم الوقت ، ولذلك لم يكن لمثل هذا المعلم أن ينجح في استقطاب هذه الفئة الواعية ، من الطلاب ويضمهم لفريق الحمار ، ولذا نجي هؤلاء الطلاب المجتهدين من الوقوع في بئر التسرب من التعليم ، وصاروا في أعلي الدرجات .. ومن بينهم إبن مأمون أفندي الذي صار طبيباً ، لشدة حرصه علي تعليمه سواء كان بالحزم أو اللين !! أما صبيان الحمار، فتجدهم – اليوم – بعد مُضي العُمر والسنين ، وقد صار فيهم العربجي والأرزقي والعتَال والفرَان والسائق ، ومن لا مهنة له ، ومن هو غليظ القلب ، وفظ اللسان ، لانهم حُرموا من حلاوة العِلم ، الذي يزين صاحبه بالاحترام ، ثم حُرموا – كذلك – منافسة وملازمة أولي العلم والفكر والرأي السديد ، حتي كدت تستحسهم وقد تخطوا الستين عاماً ، وهم يندمون علي تفريطهم ، وتساهلهم فيما مضي ، وإنشغالهم بما لم يُقدِم لهم النفع أو الفائدة ، فما نفعهم أستاذهم الذي رحل – عن الدنيا – منذ عقود ، ولا نفعهم حِماره ، الذي نفَقَ ، ولحق بصاحبه ، وصار كلاهما تراباً تحت تراب !!
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.