لم يكتب له القدر أن يتلقي قدراً قيماً من التعليم، أو أن يحصد باعاً كريماً من سنوات الدراسة، فلذا لم يكتمل حُلم الصبي بأن يلتحق بالجامعة، ليصبح - كما تمني - موظفاً كبيراً، وصاحب وجاهة اجتماعية مشرفة مثل أقرانه الذين أكملوا تعليمهم الجامعي، ولكن ذهبت الأمنية الناقصة في مهب الريح العاصف بعد أن ترك الفتي تعليمه الثانوي منذ العام الأول، حتى دفعت به الظروف أن يصبح فلاحاً، يُشرف علي أملاكه الزراعية الواسعة، التي ورثها عن والده، الذي رحل، وهو في سن الرابعة.كان الصبي هو وحيد أُمه علي تسع من البنات ، معظمهن أخواتُ له من الأب ، وقد تزوج بعضهُنَ ، و تربي - هو - وسط باقي أخواته الأبكار ، في كنف والدته ، التي كانت تخاف عليه ، وتعتبره سندها ، حين تكبُر وتعتريها أوهان الشيخوخة . ومع رعاية الأم ، جاءت وصاية العم الثري ، علي الصبي القاصر وأخواته ، ليرعاهم ويرعي مالهم وشئونهم ، وقد شاءت الظروف ، أن يتربى الصبي تحت سيطرة عمه ، الذي كان قاسي المعاملة ، جاف الطباع ، لا يعرف اللين ، فكان يقسو علي الصبي ، وكان ينهره ، ولا يستخدم في معاملته إلا قليلاً من الرفق ، بل كان يغضب من الصبي أكثر من فرحه به ، عندما اكتشف أن شخصية الصبي العدوانية تتطبع بالمكر الدفين والكُهن المديد ، والميل إلي حب النفس ، وعدم حب الخير للآخرين !! تمر الأيام ليصبح الصبي شاباً، ثم يتحرر من وصاية عمه الحازمة، وتمر السنوات تِباعاً، فيتزوج، وبعدها تتجدد لحظات الحسرة وخيبة الأمل، وتملئان قلب الفلاح المزارع، كلما تذكر دوافع تسربه من التعليم، وضياع أمله، ثم كانت تتراكم أحزانه وتتوهج، وتبدو وكأنها نار موقده تكاد تحرق عظام صدره، عندما يغادر بحور شروده، عائداً للواقع الأليم، ليجد نفسه، مجرد فلاح، يرتدي الصديري وفوقه الجلباب البلدي، واضعاً الطاقية الصوف فوق رأسه، ممتطياً ظهر حماره، ساحباً بالبهائم إلي حيث عمله بالحقل. كان الرجل - رغم ثراؤه - يراقب أصحاب الهيئة السوية والمظهر الأنيق ، من زملائه القدامى بالمدرسة ، والذين تخرجوا في الجامعة ، وكم كان يتنهد عندما يراهم يرتدون الملابس الأفرنجي ، والبِدل الكاملة ، بعدما تقلدوا المناصب الحيوية، حتى صار منهم المديرون العموم ، ووكلاء الوزارات ، وأيضاً كبار الأطباء والمهندسون ، وكانت تتوسع دائرة الحسرة وينفجر بركان الندم في نفس هذا المزارع ، عندما يري الناس تُحيي هؤلاء الوجهاء المتعلمين ، بقدر واسع من الهيبة والاحترام ، وتناديهم بلقب الأستاذ فلان أو حضرة المدير عِلان ، أما هو فلا يقال له إلا يا " حاج فلان " ، لأنه لم يحصل علي أي شهادات عليا ، ونحن في مجتمع صارم العادات ، ولا تقبل أعرافه - أبداً - أن يُنادَي أو يُلقب فلاح بالمجتمع المصري بلقب " أستاذ " !!!لم يكن يقتنع الرجل - خائب الرجاء - بأن كل إنسان، له نصيبه القدري، بإرادة العليم الخبير، ولم يكن ينظر هذا التعيس بعين الإيمان والرضا، حتى يري أن الله قد عوَضه بالمال الوفير والكثير من الأولاد، ورزق أبنائه وبناته بالزيجات الصالحة، ورزقه - هو - بالأحفاد، وبارك له في صحته، إلا أنه كان يغمض عينيه عن أغلي النعم الربانية، ويشغل البال بمن تعلموا وترقوا وارتقوا في المناصب، مع أن معظم هؤلاء الأشخاص، قد تخطوا سن الستين وتقاعدوا، وتركوا كافة مناصبهم، ومنهم من انشغل بآلام المرض وسعي لمداواته، ومنهم من رحل عن الدنيا بمتاعها القليل، ومع ذلك فكان شبح الحرمان من التعليم، يستخدم قواه الخارقة ليهاجم عقل وفكر الفلاح المسكين في نومه وفي يقظته، حتى أن الرجل لم يكن يهدأ هوناً ما، إلا بإشعال السيجارة ومن ورائها الأخرى، لينفخ مع دخانها الأسود، هموماً صنعها له شيطانه المارد. كان الرجل ينساق وراء جهله الأعرج، ويطاوع سوءة نفسه الماكرة، ويستخدم مخالب عناده، الملطخة بالدهاء، ويجيد التلون بالكلام الناعم الذي يخالف أفعاله وتعاملاته مع الناس، حتى ضجَت الناس منه، وعرفوا بأن في قلبه مرض وشقاء لا يُرجي شفاؤهما، ثم ازدات زلات الرجل عندما أصبح نماماً ينقل الكلام بين الناس، فكان يجلس مع هؤلاء، ليعرف أسرارهم، ثم يجلس مع غيرهم ليعرف أخبارهم، ثم يهرول بنقل الأسرار والأخبار بين الجماعتين، ليحدث الوقيعة والعداوة بينهما ، حتى صار الرجل منبوذاً أينما حلَ وكان !! لم يعتبر الرجل من الشيبه التي طالته ، أو الشعر الأبيض الذي كسي رأسه وغطي شاربه ، أو حتى الانحناء الذي أصاب ظهره ، وبدي ظاهراً أثناء جلوسه في الصلاة ، وقد قارب علي السبعين عاماً ، وصار علي مشارف الآخرة . كان الرجل يجلس في شُرفة بيته ليتتبع بالنظرات - المطَعمه بالحقد والغيرة - كل وجيهٍ وذي مقامٍ ومنصب ، ولم تكن ترتاح سريرته الشيطانية ، أو يجد طمأنينة زائفة إلا بملازمة المشتغلين بعيوب ومساوئ الغير، وكنت تجده ومن معه ، وهم يجلسون جماعات ، فوق تل من التراب في الطريق ، وأحياناً تشاهدهم مستلقون علي جنوبهم ، ينظرون للمارين هنا وهناك ، غير معتبرين لحق الطريق ، وما له من حرمات . كنت تتعجب وتدعوك الدهشة ، للنظر في حال هذا الفلاح الذي يحرص أن يفسح للغرباء في المجالس ، بل كان ينتفض واقفاً احتراما لهم ، أما الأقربون له قرابة الدم ، فكان يستهون في معاملاتهم ، ويعدهم في نفسه ، من بين أصحاب الشأن الهين ، والمقام القليل ، فلم يكن يبالي بخصومته إياهم واحداً وراء الآخر ، ولم يكن يستدعي شيئاً من الحياء أو يحفظ بضعاً من المعروف عندما يسئ إلي جيرانه ، ويسعى لضررهم ، إرضاءً لهواجس عقله الذي أوشك أن يفقده .وها هو حضرة الفلاح الثري ، لا يزال يعاني أوجاعاً نفسيه ، ويسترجي ألقاباً ومناصب فانية ، ظاناً بأنه خسِر كل شيء طالما لم يتعلم .. ولعله يهتدي ، ويصنع من التقي ثياباً تزينه ، ويهرول بإصلاح ذات البين ، ثم يشغل القلب واللسان بالباقيات الصالحات التي هي خير ثواباً وأملاً في دار المستقر!!
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.