كان إعلان البرلمان بغرفتيه (الشعب والشورى) عن قواعد اختيار الجمعية التأسيسية المنوط بها إعداد مشروع دستورٍ جديدٍ، إيذانًا بالتدافع حول التصورات المتعلقة به وبواضعيه. ومن أبرز هذه القوى التى لها تصورات خاصة للدستور هى المؤسسة العسكرية. والواقع أن المؤسسة وعلى لسان عددٍ من المسئولين فيها أبدت اهتمامًا بشكل الدستور القادم وموقعها فيه. وإذا أردنا الإيجاز، فإن هناك هاجسًا أساسيًّا بالنسبة للمؤسسة العسكرية فى هذا الشأن: مدى صلاحيات أى سلطة مدنية قادمة على الجيش وشئونه الإدارية والمالية. الإشارات الأولى التى أرسلت فى هذا الصدد كانت فى مايو العام الماضى، حيث طالب اللواء «ممدوح شاهين»، مساعد وزير الدفاع للشئون القانونية والدستورية، عضو المجلس العسكرى، بضرورة أن يكون للقوات المسلحة وضع خاص فى الدستور الجديد، يحقق لها «نوعًا من التأمين حتى لا تكون تحت هوى رئيس الدولة أيًّا كان شخص أو شكل هذا الرئيس»، كما طالب بعدم طرح الأمور الخاصة بالقوات المسلحة فى مجلس الشعب. وكان هذا فى إحدى جلسات ما سُمىِّ ب«مؤتمر الوفاق القومى»، وتحدث كذلك عن دور الجيش إن الدساتير القديمة كانت تنص على أن الجيش يحمى الشرعية، أما فى النص الحالى فدوره حماية البلاد فقط "وهو ما رأيناه فى تواجد القوات المسلحة فى الشارع لحماية الشعب أثناء الثورة". والحقيقة أن هذا الطرح كان أوَّل تعبير علنى عن رغبة قادة الجيش فى وضعٍ مميز للمؤسسة العسكرية فى الدستور، يوفَّر لها ما يشبه الحصانة أمام أى سلطة مدنية سواء تنفيذية أو تشريعية. إلا أن الإعلان الأكثر وضوحًا فى هذا المجال، كان بلا جدال ما عُرِفَ فيما بعد ب«وثيقة السلمىِّ»، التى ظهرت فى صيغة تشبه المقايضة بين القوى الليبرالية والمجلس العسكرى، تحقق فيها الأولى آمالها فيما يسمى ب«مدنية» الدولة، والحدِّ من نفوذ الإسلاميين المنتظر فى الانتخابات، فى حين يحصل الثانى على دورٍ سياسىٍّ معترف به دستوريًّا، فضلاً عن الامتيازات القانونية. على الرغم من أن الوثيقة ظهرت وكأنها مبادرة فردية من نائب رئيس الوزراء آنذاك «على السلمى» وحده، إلا أنه كان مفهومًا أنها كانت مدعومة ولو ضمنيًّا من «المجلس العسكرىِّ». الوثيقة اقترحت عدم خضوع ميزانية الجيش لإشرافٍ مدنى، بل جاء فى الوثيقة أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة يختص "دون غيره بالنظر فى كل ما يتعلق بالشئون الخاصة بالقوات المسلحة ومناقشة بنود ميزانيتها على أن يتم إدراجها رقْمًا واحدًا فى موازنة الدولة، كما يختص دون غيره بالموافقة على أى تشريع يتعلَّق بالقوات المسلحة قبل إصداره". كما اقترحت تأسيس «مجلس الدفاع الوطنى»، بوظائف واختصاصات غير محددة. ولكن بدا الهدف الأساسى من الوثيقة هو السعى بقوة إلى استقلالية شبه تامة للمؤسسة العسكرية عن السلطات المدنية ورقابتها. بعد المرحلة الأولى من انتخابات مجلس الشعب، وتحقيق الإسلاميين مكاسب انتخابيَّة كبيرة، ذهب اللواء «مختار الملا»، عضو المجلس الأعلى للقوات المسلحة، إلى القول بأن البرلمان المقبل لن يمثل فئات المجتمع المصرى، مضيفًا أن الجمعية التأسيسية التى ستضع الدستور الجديد للبلاد لابد أن تحظى بموافقة «حكومة الإنقاذ» و«المجلس الاستشارى» الذى يضم فى عضويته مفكرين وسياسيين وإعلاميين، بالإضافة إلى مجلسى الشعب والشورى. وأوضح فى ديسمبر من العام الماضى أنه يجب الاتفاق على «الضوابط» لاختيار الشخصيات التى ستكون موجودة فى الجمعية التأسيسية قبل أن يقوم البرلمان بالاختيار، على الرغم من أنه أكَّد الجيش لن يفرض أسماءً أو يتدخل. فى كل الأحوال فإن للمؤسسة العسكرية من التاريخ ومن المصالح ما يدفعها إلى هذا المنحى فى استباق تولى سلطة مدنية قوية مدعومة من الجماهير لزمام الأمور فى البلاد، فالمؤسسة ترى أن لديها ميراثًا وخصوصية تجعلان من مطالبتها بموقع مميز من الدستور والنظام السياسى أمرًا واقعيًّا. والاحتمال الأكبر أن الجيش سيحظى بإجراءات استثنائية لسنواتٍ قادمة، وأن أى حكومة أو رئيس مدنى لن يكون بوسعه سوى الاعتراف بأمرٍ واقع بدأ وتأسس منذ أكثر من ستين عامًا. ولعل هذه الترتيبات قد بدأت بالفعل حيث أعلن قيادات جماعة "الإخوان والمسلمين" وحزبها السياسى فى فبراير الماضى عن استعدادهم لتقديم حصانة قضائية لأفراد الجيش لتفادى المحاسبة على أى تجاوزات سابقة.