أحد الكتاب المصريين الكبار كتب تعليقاً علي زيادة الأسعار الجديدة وموجة الغلاء الغير مسبوقة والتي تعصف بالبلاد بقوله (وإيه يعني لما الأب يخفض مصروف أولاده!), والأب هنا قولا ً واحدا هو رئيس الجمهورية والأولاد هنا أيضاً وقولاً واحداً آخر هم أفراد الشعب, وبالقطع ليسوا كل أفراد الشعب, بل هم الطبقة المتوسطة التي دخلت دائرة الفقر, والطبقة الفقيرة التي دخلت دائرة العدم, وهم أولاد البطة السوداء الذين عليهم تحمل كل التبعات ويقع علي كاهلهم كل الواجبات, باعتبار أنهم لا خوف منهم ولا وجل, ولا تأثير لهم في عاجل الأجل, بخلاف المتنفذين, رجال الأعمال والطبقات العليا الذين يعيشون علي مص دماء هذا الشعب المسكين ولا يقدمون له إلا الفتات, حتى دعوة السيسي نفسها لجمع 100 مليار جنيه من رجال الأعمال لصندوقه (تحيا مصر) لم يجمع سوي 7مليارات أغلبها من البسطاء, بل إن رجال الأعمال هؤلاء أرسلوا رسالة تهديد مبطنة للسيسي أيام انتخابه للرئاسة, عن طريق قنواتهم الخاصة وعمال شركاتهم بالامتناع عن الذهاب للجان, ثم قامت تلك القنوات بدور المُهيج حول خلو اللجان (وإلحقوا الريس), وفهم الرجل الرسالة فامتنع عن إيذائهم إلا بالقدر الذي تسير به الأمور, وليس بالقدر المطلوب والواجب في بلد يعاني من الفقر والجهل والمرض والغلاء الفاحش!, ونظرية الرئيس الأب أو كبير العائلة نظرية تتبناها الدول الفاشلة, و يدعو لها طبقة من نافخي الكير وماسحي الجوخ, المتسلقين كاللبلاب, الآكلين علي كل الموائد, المنافقين لكل ذي سلطان,من الإعلاميين والصحافيين, الذين يبيعون آخرتهم بعرضٍ زائل من الدنيا, فيعتمدون علي غرس هذا المفهوم في عقول البسطاء وأنصاف المتعلمين, حتى لا يتجرأ أحد وينتقد الرئيس باعتباره الأب وكبير الأسرة والعائلة, وهل يجرؤ الابن علي انتقاد الأب وتخطئته حتى لو كان كذلك, هذه الصورة الأبوية والتي بدأها السادات في مصر بدعايته (كبير العائلة), وأكملها مبارك كما قال أحد أتباعه يوم خروج المظاهرات ضده في 25 يناير (اعتبروه زي أبوكم يا أخي), وكأن الأب من مسئولياته وواجباته تخريب بيته وسكنه, وإفقار أولاده, وإمراضهم, وسرقة وتهريب أموالهم, وتركهم فريسة للثالوث الرهيب الجهل والفقر والمرض, ولذا يحاول هذا الصحافي إلصاق هذه الصفة بالسيسي (الأبوية), بما يؤدي إلي عدم انتقاده أو التعقيب عليه أو محاسبته, حتى تسلل إليه هو نفسه هذا ألإحساس حين اعترض المعترضون علي بيع تيران وصنافير للسعودية بقوله (إسمعوا مني بس.. ومش عايز كلام في الموضوع ده تاني!), وكأنها أسرة تتناقش في الخروج لرحلة للقناطر الخيرية أو جنينة الحيوانات, فيحسم الأب النقاش بعدم الخروج لقلة المصاريف, فينقطع الكلام بعدها, وهو شعور مخيف في عالم الديمقراطيات والحريات والفضاء المفتوح علي دولٍ تقدمت وبرزت عندما تعلمت ومارست الحرية التي من خلالها حاسبت الحاكم وطالبته قبل الترشح بوجود برنامج انتخابي يلتزم بتنفيذه, وليس كلاما إنشائياٍ لا يُسمِن ولا يُغني من جوع, ولا يبني دولة أو ينقذ وطناً, أو يطعم جائعاً أو يكسي عارياٍ أو يأوي مشردا, الرئيس الأب أو الأب الرئيس تصلح في كوريا الشمالية المحكومة بالحديد والنار, أو جمهوريات الموز, أو بعض جمهوريات إفريقيا التي مازالت تئن من هذه الأنظمة كموجابي في زيمبابوي, أو الدول الملكية التي يملك فيها الملك كل الصلاحيات, لكن الدول المحترمة, المحكومة بدستور حقيقي مٌطبقُ فعلياً, مجلس شعب أو نواب مُختار باستقلالية تامة, وليس علي أعين الأجهزة الأمنية, وإعلامُ وقنواتُ فضائية حرة,لا تشتريها أو توجهها الأجهزة الرسمية, وصحف مستقلة برؤساء تحرير شرفاء يدينون بالفضل والتقدير والامتنان للشعب, ولا يوجههم أحد, ولا يُملَي عليهم ما يقولون ولا ما يكتبون, عندما تتوفر هذه الشروط ستسقط نظرية الرئيس الأب ولن يطالب الشعب بمصروفه من بابا الرئيس, والمصروف هنا هو حق ثابت وأصيل من توفير الحياة الكريمة له, مأكل, مشرب, مسكن, ملبس, علاج, تعليم, حقوق تُسمي الضرورات في الشريعة, وهي ما لا يمكن الحياة بدونها, وهي ليست مِنه من الحاكم أو تفضلاً, من إستطاع توفيرها فبها ونعمت واستمر, ومن أخفق فيها وقصر وجامل الأغنياء علي الفقراء فعليه الرحيل غير مأسوفٍ عليه, مصروف الشعب من بابا الرئيس يجب ألا يدفعه للعوز والحاجة ومد يده بتسولٍ أو رشوةٍ أو سرقه, ومن دفع الشعب لذلك بإهمالٍ أو تقصير أو إستخفاف أو تترسٍ خلف أجهزة أمنية باطشة, قطع الشعب يده هو كما فعل عمر في رجل دفع أجراءه للسرقة لعدم تغطيته حاجاتهم (فهدده إن سرقوا بعد ذلك قطع عمر يده), لا مجال لبابا الرئيس الآن ولا مجال لطلب المصروف, الناس تئن وتريد حقوقها المنهوبة والمسلوبة, وإلا فلن يكون رئيس وقتها, وسيأخذ الشعب مصروفه أقصد حقه بيده ! د. جمال المنشاوي كاتب وباحث مصري عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.