حان الوقت لكي نتجه الي تحسين حال رجال الشرطة، وهذا الاتجاه ضروري لأن الشرطة هي عصب الأداة التي يرجع إليها حفظ الأمن وصيانته، كما أن هذا يتفق مع روح العصر الذي يدعو إلي العناية بالطبقات الصغيرة، والعمل علي رفع مستواهم المعيشي، وهناك نظرية تدعو الي توجيه الاهتمام إلي الطبقات الكبيرة من الموظفين سواء كان ذلك الاهتمام بتحسين مستواهم الثقافي أو المادي، ولعل هذه النظرية كانت لها حجتها، فكبار الموظفين هم الرؤساء الموجهون والمنفذون، الذين يتحملون المسئوليات والتبعات، ولكن هذه النظرية كانت تأخذ الأمر من زاوية واحدة، فإنه مهما يكن الرئيس واسع الكفاية والثقافة، مطمئن الحياة، راضي النفس، مقبلاً علي عمله، مخلصاً له، يظل ضعيف الإنتاج، قليل النفع ما لم يعتمد علي معاونين راضين مستمتعين بنصيب من الكسب يكفل لهم حياة كريمة. ويبقي لهذا الامر وجه آخر أهم وأشمل، يتصل بسياسة الدولة ومستوي الشعب الصحي والاجتماعي، فإن الطبقات الصغيرة أكثر الطبقات إنجابا للأولاد، وأكثرهم إقبالاً علي الحياة المستقرة في دائرة العائلة، فمعاناتهم من صعوبة العيش هم وعائلاتهم، معناه سوء مستوي الصحة العامة، والمستوي الاجتماعي للشعب، فالالتفات إلي هذه الطبقات ينطوي علي ضرورة رفع هذا المستوي، وكل ما ينفق في سبيله يرتد إلي خزانة الدولة من ناحية، ويرتد الي الثروة القومية من ناحية أخري، اما الدولة فسوف تجد أنها، إذ تنجح في رفع المستوي الاقتصادي لعامة الشعب، ستنخفض نفقاتها علي الرعاية الصحية، بل ستجد أن نفقاتها في ضبط الجرائم واقامة العدالة بين الناس قد انخفضت ايضاً، فإن أكثر متاعب الحكومات إنما تنشأ من الفقر، وانخفاض مستوي المعيشة، أما الثروة القومية فسوف تكسب قوي بشرية تتمتع بالصحة، ولا تتعرض لإنهاك المرض. هكذا يرتد الي الخزانة العامة للدولة بعض ما تنفقه، ويرتد الي الشعب معنوياته التي فقدها. إننا لنسعد أشد السعادة، إذ نجد ان الاتجاه يميل الي رفع المستوي العام لصغار العاملين في كيان الدولة، وأن سعادتنا ستكون مضاعفة حينما نشعر أن ظل العدالة قد شمل الجميع. ومن أصدق الرسائل التي تلقيتها في التعبير، كانت من موظف صغير بوزارة الداخلية، وهو من رجال الشرطة المنوط بهم بعض الأعمال الكتابية، ولم يزد مرتبه منذ سنوات، ويقول أنه لو عنده أقل أمل في الزيادة لما فكر في الشكوي! وأنا أعلم أن المرتبات في الحكومة بصفة عامة تزيد زيادة طفيفة، لا تتناسب مع ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة، وأن البقاء علي حالة واحدة يصيب نفسية الموظف، ويؤثر علي إخلاصه في عمله، وحرصه علي أدائه. وقد قيل إن الذي لا يتحرك إلي الأمام لا يعيش، فإن سمة الحياة الخصبة التقدم والتطور. ونعود الي رجل الشرطة الذي يجلس علي مكتب، ويؤدي عمله مع زملاء يأخذون أضعاف مرتبه، ويطلب منه مع ذلك أن يكون طاهر اليدين، متمسكاً بالأمانة والشرف، وأقول للمسئولين: هل يشعرون بالثقة في هذا الموظف وأمثاله، وهل يطمئنون إلي أنه يمكن أن يظل طوال عمره أميناً لا يفكر في الرشوة والتدليس والكذب والتحايل! أن رجال الشرطة مهما تكن مراكزهم ورواتبهم صغيرة، هم أكثر رجال الحكومة صلة بالجمهور، وأكثرهم قدرة علي العبث بالقانون، وتهاوناً في تنفيذه، ووسائلهم في ذلك عديدة، متي فقدوا امانة النفس تحت ضغط الحاجة، ومطالب الاولاد التي لا ترحم! إننا إذ نطالب بتحسين مستوي معيشة هذه الفئة، نشعر أنه واجب لخير الأمن والعدل ونشر روح الفضيلة في أفرادها، والعفة كما قيل ثوب يمزقه الفقر، فإذا أردت موظفاً أميناً مجتهداً، ينبغي أن نرتفع به الي المستوي الذي يجد فيه مطالب العيش ميسرة، فالعصر الذي كان الاهتمام فيه موجها الي طبقات الموظفين الكبار قد انتهي.