كان جاليليو عالمًا فذا فى الفيزياء، اقتنع نتيجة أبحاثه الشخصية بنظرية كوبرنيكس بأن الأرض هى التى تدور حول الشمس، وليست الشمس هى التى تدور حول الأرض، كما اعتقد أهل ذلك الزمان. وفى عام 1633 حكم أغبياء رجال الدين على عالم الفيزياء الفذ بالسجن مدى الحياة، و فى اليوم التالى خفف الحكم إلى الإقامة الجبرية فى منزله حتى وافته المنيه فى 8 يوليو 1642. وقد أكدت المعارف العلمية بعد ذلك حقيقة أن الأرض تدور حول الشمس فعلا ولكنها أثبتت أن الشمس أيضًا تدور، وأن القمر يدور حول الأرض، وهو مرتبط بها فى مدار ثابت بفعل الجاذبية الأرضية والسرعة.. وأن الأرض تدور، ومعها قمرها، مرة كل سنة حول الشمس، وكذلك يدور معها حول الشمس باقى كواكب المجموعة الشمسية. الذى لم يكتشفه جاليليو وعرفه علماء الفلك فيما بعد هو أن الشمس تدور هى الأخرى، ومعها كواكب المجموعة الشمسية كلها، حول مركز آخر لم تتوصل البشرية لمعرفته بعد.. وأن المجموعة الشمسية ما هى إلا مجرة من مجرات لا نعرف عددها تدور وتسبح فى فضاء لانهائى فسيح. نسب إلى رائد الفضاء الروسى يورى جاجارين، وهو أول إنسان دار بمركبة فضائية حول الأرض قوله إنه "لم ير الله" فى رحلته الفضائية. لم ير جاجارين الله فى الفضاء لأن الله لا يرى إلا بنوره الإلهى فى قلوب المؤمنين، ولم يميز حضور الله فى الفضاء السحيق لأن الله واسع عليم يحيط بكل شىء ولا يحيط به شىء، وقد أحاط بعنايته الإلهية جاجارين ومركبته الصغيرة حتى عاد سالما إلى الأرض دون أن يراه. لم يكن جاجارين الذى نشأ فى دولة شيوعية ملحدة، أكثر غطرسة من رجال الدين الأغبياء الذين حكموا على جاليليو، ولم يكن كذلك أقل غطرسة من كثير من المتدينين الذين يدعون أن ما يعرفونه هو الحقيقة المطلقة، وأن ما لا يقرونه ويقول به غيرهم هو كفر وزندقة. الله لم يره أحد قط، فلا تدركه الأبصار وهو مدركها، يحيط بكل شىء ولا يحيط به شىء، حتى الأنبياء المعتبرون قمم الإيمان بين البشر وأهل الوحى أقروا جميعا على مدى التاريخ والأيام، أنهم ما علموا إلا القليل.. فلنتأمل غطرسة الإنسان الذى لم ير شيئا ويحكم بالكفر على غيره من الناس. هنالك قواعد إيمانية وأخلاقية لشرح العقيدة والإيمان، والدفاع عن فهم صحيح للدين كما يشرحه العلماء والفقهاء، وكما هى قواعد علوم مقارنة الأديان، وهناك مساحة محسوبة يبرهن بها المرء على صحة إيمانه، ويعبر عن نقاط التناقض والاختلاف بين إيمانه وإيمان غيره.. ولأن يشرح سبب اعتراضه على إيمان غيره.. كل هذا وغيره له قواعد فى أدب الحوار والجوار، وأما أن يطلق المرء للسانه العنان. أن يكفر غيره أو يزدرى إيمانه، أو أن يسب فى العلن رموز الأديان وأنبيائها، وأن يصمت أهل الحل والعقد من علماء الدين وفقهائه على هذا، وأن يهلل العامة لهذا الخطاب الدينى القبيح، فهذا معناه فى رأيى أن الدين قد بيع بأرخص الأثمان، وأن الخطاب الدينى قد انحدر إلى هوة سحيقة يصعب وصفها بالكلمات العفيفة. ما من شك فى أن الأديان كلها تقوم أساسًا على حقيقة إيمانية سامية تدعو بإخلاص إلى الله.. وما من شك أيضًا أن جوهر الإيمان السامى قد أمكن تحويله، بفعل خطاب دينى مؤسس على الكراهية للآخر أو البحث عن شهرة أو زعامة، إلى ازدواجية للمعايير يقدم من خلالها كلامًا وأقوالا لا تنتمى للإيمان وخطابًا دينيًا لا يرقى إلى مستوى الأخلاق.. خطابًا يحض على الكراهية والقمع والتكفير والاستعلاء. لا يقبل بأى حال من الأحوال أن يكون الخطاب الدينى أدنى مستوى من الخطاب الأخلاقى، ولا يقبل أن تكون الأخلاق أعلى من الإيمان، ومن ثم لابد من تمرير الخطاب الدينى فى مصفاة الأخلاق لكى ينقى خطاب الإيمان من عيوب الخطاب الإنسان وبصمته وكى لا يصير الخطاب الدينى فيما بعد سببًا فى إهانة الإيمان والإساءة إلى الأديا10ن. ونشدد هنا على أن ما يحتاج إلى إصلاح هو الخطاب الدينى، وهذا يشكل جوهر دعوتنا الإصلاحية منذ البداية.. ولا نوافق من يدعو إلى إصلاح دينى الرأى.. فالدين، كطريقة لٌلإيمان، له جوهر ثابت لا يتبدل بتبدل المكان والزمان.. ولو تأملنا فى جوهر الأديان، وما تدعو إليه لاكتشفنا هذا الجوهر الثابت رغم تعدد الطرائق.. الذى يتبدل هو رؤية البشر للدين، وما دام البشر مختلفين فلابد وأن تختلف رؤاهم وتتعدد، بل كثيرا ما تتعارض وتتصادم، وتكون سبباً ومصدراً لصراع لا يمكن أن يكون الدين ولا الإيمان سبباً له. ولا سبيل للخروج من هذا المأزق إلا من خلال الإقرار بحقيقة جلية وهى أن الخطاب الدينى منتج بشرى.. رؤية نسبية قاصرة ومتغيرة لجوهر الدين الثابت والمطلق.. وما دام الخطاب منتجا بشريا فيمكن إصلاحه بل وتغييره إذا اقتضى الأمر.. والمشكلة، فى رأيى، لا تنشأ فقط عن الخلط بين ما هو نسبى وبين ما هو مطلق، بين الثابت وبين المتحول، وإنما أيضا تنشأ عندما تضفى قدسية على النسبى، الذى هو خطاب البشر، وبين الثابت المطلق، الذين هو الدين فى جوهره.. ويترتب على هذا الخلط بين المطلق والنسبى نتائج خطيرة، ليس على البشر والعلاقات فيما بينهم، وإنما على الدين نفسه، الأمر الذى يثير فى نفسى، كرجل دين، قلقاً عميقاً وخوفاً على الدين ورسالته ودوره فى حياة الأمم والشعوب.. وأولى هذه النتائج أن يتحول الدين الذى أنزل للبشر ليكون هادياً للإنسان ومصدراً لسلامه وسعادته فى الحياة الدنيا والآخرة، إلى مصدرٍ للصراع بين البشر وسبباً فى شقائهم، وفى هذا خروج على الدين القويم وجوهره الخالص. وثانى هذه النتائج، أن هذا الخلط بين الجوهر المطلق للدين والرؤية النسبية والمتغيرة للخطاب الدينى، أن يتحول الخطاب الدينى إلى أداة للتسلط والقهر بالسعى لفرض تفسير محدد للدين واستبعاد ما عداه من تفسيرات، على نحو يحول الدين إلى مذهب. ويزداد الأمر بؤساً إذا تحول هذا المذهب إلى أداة طيعة فى يد السلطان وسلاح يشهره فى وجه معارضيه.. ويستخدم لتبرير أوضاع لا يقرها الدين فى جوهره ولا يمكن قبولها لا من الناحية الأخلاقية ولا من الناحية العقلية والمنطقية. وإذا أمعنا النظر مرة أخرى فى قضية جاليليو لاكتشفنا كم من الأخطاء يرتكب باسم الدين، وتأكدنا من حقيقة أن الأرض تدور رغم اعتراضات من حاكموا جاليليو من رجال الكنيسة، ولأدركنا أن انتصار جاليليو لم يكن هزيمة للدين وإنما لرجال الكنيسة وخطابهم الدينى. الأنبا مكسيموس رئيس اساقفة المجمع المقدس لكنائس القديس اثناسيوس للتواصل: [email protected]