عندما كانت مصر قائدة لكل العرب وأبناؤها الأوائل في كل مجال منذ أكثر من ستين عاما؛ كان ذلك بسبب جودة التعليم وجدية الحكومة في رعاية العملية التعليمية واعتبارها حجر الأساس لنهضة الأمم. وعندما انهارت العملية التعليمية بسبب التقتير على مرافق التعليم والاعتماد على أهل الثقة دون أهل الخبرة؛ تراجعت مصر وفقد المصريون الصدارة، بل وفرص العمل في الدول العربية. والشيء المفزع أن انحدار مستوى التعليم وصل إلى درجة فشل أغلب المصريين- من الجيل الجديد- في كتابة لغتهم العربية!.. حتى للمهن التي تُعتبر اللغة أساس عملها مثل المعلمين والصحفيين والمحامين والقضاة!. فعلى سبيل المثال قرأت إعلانا لمعلم يُعلن عن مجموعة للدروس الخصوصية بمعدل خطأ إملائي في كل كلمتين.. ليس فقط في عدم التمييز بين الهاء والتاء، والألف والهمزة، والياء والألف المقصورة (وهذه كارثة لم تعد مستغربة أو مستهجنة للأسف لعمومها)؛ ولكن في كلمات أساسية مثل: بالكتابة (بلكتابه)، بالمناسبة (بلمناسبه)، بالمجموعة (بلجروب)!. ويبدو أن سبب المشكلة أن عملية (القراءة) توقفت تماما عندما أغلقت المدارس بسبب الدروس الخصوصية وتحولت الكتابة إلى مجرد تلقين سماعي.. إذ لاحظت أخطاء مشابهة في مذكرة أحد المحامين: الرابعة (الارابعة)، باستهلاكها (بستهلاكها)، للشقة (لشقه). كما وجدت في إعلانات المدارس عن بدء التسجيل للعام الدراسي الجديد، وبالخط العريض.. الجميع يكتب: المدرسة (المدرسه)، والمدرسية (المدرسيه)؛ إن فاقد الشيء لا يعطيه. هل المصريون راضون عن هذا الانهيار التعليمي أو غير منتبهين لهذه الكارثة؟!.. إن فساد التعليم ومعاناة ملايين المصريين من نكبة الدروس الخصوصية كانا من أهم أسباب الثورة على نظام المخلوع. وعليه فقد كان على الحكومات المتتابعة أن تجتهد لإيجاد حلول سريعة لمشكلات التعليم المتراكمة، والتي تولّد مشكلات بكافة القطاعات الأخرى بسبب تدني مستوى الخريجين. لقد عمّت البلوى وانتقلت من التعليم العام إلى التعليم الجامعي.. وهذا يضع وزيري التعليم العالي والتربية والتعليم أمام مسئوليات عظمى تحتاج إلى جهود كبيرة و(عمليات جراحية) خطيرة لإنقاذ مستقبل مصر بإغاثة شبابها من التعليم الصوري المتواضع. وقد اعترف الجميع بأصل الداء وهو تدني دخول المعلمين وأساتذة الجامعات، فما الذي تم للبدء في إصلاح هذا الخلل؟!. من المشكلات التي يواجهها طلاب الجامعات أن كثيرا من الأساتذة، خصوصا المشغولون بأعمالهم الخاصة، هجروا الجامعة وتركوا جداولهم لصغار المدرسين والمعيدين، رغم أنهم يحصلون على مرتباتهم بانتظام!.. وقد أدى ذلك إلى هجر الطلاب أيضا للجامعة واضطرارهم للهرب إلى الدروس الخصوصية. يستحيل أن نجد في أي مكان بالعالم مَن يسمح بحصول موظف على مرتبه دون أن يؤدي عمله!.. نعلم أن بعضهم ينظر إلى مرتبه باحتقار لأنه يحصل في اليوم الواحد على أضعافه من نشاطه الخاص، وهو لا يفكر في الاستقالة والتفرغ لنشاطه لأن انتسابه للجامعة هو الذي يأتي إليه بالزبائن!، ألا ينبغي إقالة هذا الصنف من الأساتذة ووضع نظام دقيق للتأكد من تأدية كل إنسان لعمله؟!. وهناك مشكلات تجارة الكتب الرديئة، وإلزام الطلاب بشراء (الشيت) وإسقاط من يتخلف عن دفع ثمنه، ناهيك عن بيع البعض للامتحانات وازدهار عمليات الغش بالتالي.. فماذا فعل الوزير لإصلاح هذه المفاسد؟!. أما أمُّ المشكلات الجامعية الآن فهي ما ورثه لنا المخلوع (واستمر وازدهر بعده) من جامعات ومعاهد خاصة أنشأت خصيصا (لبيع) رخص عمل تحت مسمى (شهادات) لمن يدفع وليس لمن يتعلم، وهناك غش وتدليس وتزوير يمكن أن يهدم أعظم الأمم المتقدمة، فماذا سيفعل بمصر التي حولها الانهيار الإداري إلى خرائب؟.. هل لدى الوزير تصور أو خطة لعلاج هذه الكوارث، أم أن كل شيء سيبقى على حاله؟، وإذا كانت لديه خطة فلماذا لم يعلنها ويبدأ في تنفيذها؟!!. أما وزير التربية والتعليم، فقد بشرنا كسابقيه- قبل بدء العام الدراسي- بتصريحات عنترية عن انتظام العمل بالمدارس وعدم السماح بغياب المعلمين أو الطلاب.. ولكن الواقع للأسف غير ذلك، وسيبقى كل شيء على حاله لأن العام الدراسي بدأ بالفعل منذ أكثر من شهرين ولكن في البيوت والمراكز التعليمية!.. وهذا يبشر ببقاء آلاف المدارس التي أنفق عليها المليارات خاوية على عروشها!. إن مشكلة تدهور التعليم العام واضحة وأسبابها مفهومة, وإذا كانت هناك نية للنهوض بالعملية التعليمية فالطريق معروف ومجرب في بلادنا (أيام زمان) وفي كل بلاد الدنيا. لقد انتقل التعليم من المدارس إلى البيوت عندما انعدمت الرقابة على المدارس وعندما أُهين المعلم في مدرسته وقُتر عليه وعلى أسرته، فهل يصعب على الوزارة إعادة الاعتبار لنظام التفتيش ودعم عمليات الرقابة ومنع غياب المعلمين والطلاب؟. كما انتشرت الكتب الخارجية عندما تدهور مستوى الكتاب المدرسي «عمدا» للترويج لهذه الكتب التجارية التي تحقق الثراء لبعض «التجار» من كبار المسئولين الذين تعرفهم الوزارة جيدا.. والسؤال الذي نلح على الوزير في الاجابة عليه: هل لا تستطيع الوزارة بكل سلطانها وهيلمانها منع (الملخصات) المدمرة للتعليم بقرار وزاري مثلما تفعل دول كثيرة مثل الكويت?، وهذا يتطلب بالطبع التغيير الجذري في طريقة اختيار الكتب التي تنفق عليها الدولة المليارات وتجد طريقها إلى القمامة لسوء حالها. ألا تستطيع (وزارة) توفير كتاب للطالب أفضل من الكتاب الخارجي؟، أم أنها لا ترغب في ذلك؟!. قرأت أثناء كتابة المقال أن الوزير كلف أجهزة الأمن بإغلاق المراكز التعليمية!.. وهذا ليس حلا؛ أو حل العاجز، لأنه يترك ما في يده وتحت سيطرته (المدارس) ويتوجه إلى ما لا يستطيع التحكم فيه!.. لأن أولياء الأمور والطلاب لن يستجيبوا لذلك إلا إذا وجدوا مدارس حقيقية تغنيهم عن الدروس (مثل مدارس زمان!). وأريد أن اذكر هذا الوزير بما فعله المصريون عندما منع السادات بيع اللحوم فزاد استهلاكها عندا في هذا القرار الغريب. ومن البديهي ألا نطالب بمنع المعلمين من العمل الخاص، بالدروس الخصوصية، إلا عندما يوضع نظام عام لتقنين العمل الخاص لموظفي الحكومة، لأن الأطباء مثلا يفعلون الشيء نفسه ويهجر أغلبهم المستشفيات الحكومية إلى العيادات والمستشفيات الخاصة.. ولكننا نطالب وزير التربية والتعليم (كما نطالب وزير الصحة وكافة الوزراء) بضبط العمل بالمدارس والمؤسسات الحكومية، وعدم السماح بغياب موظف عن عمله أو الإهمال في تأدية واجبات الوظيفة، فهذا أهم واجب لأية وزارة. ونذكر الحكومة الفاشلة أن الشعب ثار من أجل إصلاح التعليم، ولم يحصل حتى الآن على أي شيء إيجابي (أو حتى خطة مقنعة تجعله يطمئن وينتظر).. ولن يصبر كثيرا. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.