كما هو متوقع، فقد صدر قرار من المحكمة العليا الليبية بإلغاء أحكام بالإعدام صدرت بحق خمس ممرضات بلغاريات وطبيب فلسطيني أدينوا بتعمد حقن أطفال ليبيين بدم ملوث بالفيروس المسبب لمرض نقص المناعة المكتسب (إيدز)، كما أمرت المحكمة بإعادة محاكمتهم أمام محكمة عادية. في حين رحبت الحكومة البلغارية والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بالقرار وقال الرئيس البلغاري جورجي بارفانوف إثر إعلان القرار "لقد ألغيت الأحكام بالإعدام التي لم تكن عادلة, نتمنى أن تساعد الفعالية والسرعة التي أبانت عنهما المحكمة العليا الليبية في حل القضية في أسرع وقت ممكن". وقال ديميتار تسانشيف، المتحدث باسم وزارة الخارجية البلغارية، إن القرار على ما يبدو يقر بوقوع مخالفات إجرائية جسيمة في المحاكمة الأولى. من جهته، وصف المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية جستن هيجينس، القرار بأنه "إيجابي". فيما أعربت إيما ادوين، المتحدثة باسم المفوضية الأوروبية، عن أملها في أن "يؤدي القرار إلى حل سريع وعادل". حكم المحكمة الليبية كما يراه المراقبون يأتي كمحاولة لانهاء المواجهة القائمة بين ليبيا والغرب. فالقرار جاء بعد أن نظرت المحكمة العليا بدعوى استئناف مقدمة من الممرضات الخمس ومن الطبيب الفلسطيني الذين كانت قد صدرت بحقهم أحكام الإعدام رميا بالرصاص في مايو / آيار 2004 بتهمة التعمد بإصابة 426 طفلا بفيروس الإيدز في مدينة بنغازي. وقد توفي خمسون طفلا منهم منذ ذلك الوقت. ولطالما دفع المتهمون الستة، الذين قضوا في السجن ما يقرب من سبع سنوات، ببراءتهم من الاتهامات الموجهة إليهم، وقالوا إنهم ضحايا تدني مستوى النظافة والصحة العامة في المستشفى الذي شهد تفشي المرض. وقال المتهمون إن اعترافاتهم الأولى انتزعت منهم بواسطة التعذيب. الحكومة الليبية كانت قد ألمحت مؤخرا إلى احتمال إبطال أحكام الإعدام في مقابل مساعدة العائلات. وكانت ليبيا وبلغاريا قد اتفقتا مؤخرا على إنشاء صندوق لتعويض عائلات الأطفال الذين تقول إنهم حقنوا بالفيروس. ليس بمقدرنا أن نجزم ببراءة أو جريرة الممرضات والطبيب الفلسطيني، الذين سبق أن أدينوا بالتسبب بمقتل العشرات من الأطفال الأبرياء. ولكننا وبشكل حاسم نستطيع القول إن الحكم القضائي الليبي كان سياسيا وبالدرجة الأولى. فالحكومة الليبية التي سلمت بمطالب الإدارة الأمريكية إن كان من جهة التعويضات الفلكية لضحايا لوكربي وغيرهم أو كان من جهة تفكيك برامج الأسلحة الليبية، التي أنفقت عليها الحكومة المليارات من أموال الشعب الليبي المسحوق, وجدت نفسها مضطرة لإنهاء وطي ملف الممرضات البلغاريات حتى يتم قبول نظامها البائس في المجتمع الدولي، والذي يستخدم قضايا حقوق الإنسان والديمقراطيات حينا والقوة المفرطة حينا آخر للهيمنة على مقدرات الاقتصادية للدول الضعيفة، إن كان على شكل تعويضات أو صفقات أسلحة أو احتلال مباشر. الموقف الليبي الأخير أظهر بجلاء أن الدول العربية وبشكل عام مصابة بمرض انهيار المناعة السياسي –الايدز- فتلك الحكومات تسخر إمكانياتها الاقتصادية وأجهزتها القضائية ومناهجها التعليمية لكسب الرضا الغربي عموما والأمريكي على وجه الخصوص حتى تتمكن أنظمتها من البقاء على سدة الحكم. لا أتصور أن القضية سيتم إغلاقها بإلغاء أحكام الإعدام على الممرضات البلغاريات, بل أكاد أرجح أن يتم دفع تعويضات لهم على سوء المعاملة التي لاقوها في السجون الليبية، وربما يتم الاعتذار منهم على ما أصابهم من التعذيب والذي قادهم للاعتراف بما لم يقترفوه، ومن المحتمل أيضا أن يسوق النظام الليبي بعض الضباط الصغار المتورطين بالتعذيب من دون علم حكومتهم، ككبش فداء!، والتي اشتهرت في الآفاق بحسن معاملتها لمواطنيها المستضافين في سجونها. بقي أن نتساءل عن أحوال الأبرياء من السياسيين الليبيين الموقوفين في المعتقلات والسجون الليبية، والذين لا بواكي لهم, لماذا لا يطالب الغرب بمعاملتهم بُعشر ما يطالب به بالنسبة البلغاريات؟ ثم إذا كانت البراءة من نصيب الممرضات البلغاريات في قضية إصابة مئات الأطفال الليبيين بمرض الايدز في المستشفى الحكومي, فمن هو المسئول؟ وهل سيتم محاكمة مسئولين ليبيين على هذه الجريمة، وإصدار أحكام مشابهة للأحكام الملغاة بحق الممرضات الغربيات؟ المصدر : العصر