من الطبيعي أن يوجد في أي مجتمع أفكار متنوعة بينها مساحات من التباعد والتجاذب، فذلك دليل على حيوية المجتمع وحراكه الداخلي، وهو ما يكفل له في النهاية أفكارًا أكثر تماسكًا وأشد فاعلية.. هذا بالطبع إذا أُدير هذا الحوار الداخلي على قاعدة صلبة من احترام الرأي الآخر، والبحث عن الحقيقة دون استعلاء أو تشويه للغير. لكن هذا التنوع والتعدد في الآراء والأطروحات لا يمكن أن يبرز دفعةً واحدةً إلى الواقع العملي، وإلا كنا أمام حالة من البلبلة والتشتت، قد تؤدي إلى انقسام المجتمع إلى طوائف ومرجعيات متناحرة فيما بينها.. ولذلك لابد من انتخاب فكرة ما أو أطروحة بذاتها لتشكِّل الواقعَ على الأرض، وتصبغه بمضامينها ومواصفاتها، حسب مقتضى اختيار الأغلبية كما هو مستقر في النظام الديمقراطي. والسؤال: كيف يمكن اختيار هذه الفكرة أو تلك الأطروحة؟! الإجابة ببساطة: أن أصحاب كل فكرة يعملون بشتى الوسائل السلمية المشروعة على عرض فكرتهم واجتذاب مؤيدين ومناصرين لها، إلى أن يشكلوا أغلبية أو طبقة معتبرة، تستطيع أن تمثل "قوة دفع" لفكرتهم ليخرجوا بها من عالم الأفكار إلى الواقع المعيش، وتتحول من مجرد نظرية إلى خطط وبرامج. وليس معنى أن فكرة ما لم تجد لها أنصارًا في واقع ما، أنها فكرة فاشلة بحد ذاتها؛ وإنما معنى ذلك أنها لا تناسب هذا الواقع، بينما قد تناسب واقعًا آخر. ليس هذا كلامًا نظريّا، فواقعنا المصري في هذه المرحلة الحرجة لا يحتمل الانشغال بالأفكار النظرية التجريدية المنبتة الصلة بالواقع ومشكلاته.. وأهمية هذا الكلام تتضح حين نرى هذا الاختلاف الحاصل بين قوى الثورة حول المسارات المطروحة لإدارة ما تبقى من القترة الانتقالية؛ من تسليم السلطة ورحيل المجلس العسكري أو الانتظار حتى الانتخابات الرئاسية أو غيرها من قضايا. فبعض قوى الشباب لا تدرك أن الأفكار لا تعمل في فراغ، ولا تتحرك من تلقاء نفسها، بل لابد لها من قوة دفع "رصيد جماهيري" تنقلها من الرءوس إلى دنيا الناس.. ولذلك نراهم يصرون على بعض المطالب حتى لو لم يكن لها سند شعبي يجعل من المنطقي طرحها على الرأي العام للاختيار والتباحث بشأنها. لو كانت الأفكار تعمل من تلقاء نفسها، فإن الشعارات التي نجحت بها قوى الشباب في "إشعال" الثورة التي انضم لها الشعب بكل طوائفه وفئاته.. هذه الشعارات ظلت تنادي بها الأحزاب والحركات الاحتجاجية منذ سنوات، ومع ذلك لم تستطع أن تتحرك بها إلى الأمام على النحو المطلوب.. أما حين توافر لهذه المطالب التأييد الجماهيري الواسع حين رأت فيها الجماهير آلامها وآمالها، حينئذ نجحت ائتلافات الشباب في "إشعال" الثورة. لكن للأسف يبدو أن هذا الدرس المهم غاب الآن عن هذه الائتلافات!! بل إن بعضها يصر على مطالب ليس لها غطاء شعبي كافٍ، وقام بسبّ الجماهير واتهمها بالجهل وعدم التحضر حين لم تذهب في الطريق الذي أرادوه!! وإذا كنا جميعًا نتفق على أن الثورة أمامها الكثير مما ينبغي إنجازه، فهل هذا الطريق الذي تسلكه بعض قوى الشباب هو الطريق العملي، أم إنه يأخذنا بعيدًا نحو الديكتاتورية وفرض خيارات معينة على الجماهير وتجاوز الإرادة الشعبية، وهو ما يؤدي في النهاية إلى تعطيل المسيرة وتمديد الفترة الانتقالية وإنجازها بأكبر تكلفة؟! بل إن محاولة البعض إيجاد تناقض بين البرلمان والميدان هو في حقيقته يدل على عدم الوعي ب"قوة الدفع" المطلوبة للأفكار، وهو ما يعني مصادمة الإرادة الشعبية.. لأنه منذ أطاحت الثورة بمبارك، طُرحت أفكار كثيرة على الجماهير، ثم اختارت الأغلبية مسارًا معينًا، وبدلاً من التسليم برأي الأغلبية أصرّ البعض على الدوران في حلقة مفرغة، وكأن الأمر إما تنفيذ رأيه أو إرباك المشهد وهدم المعبد على الجميع!! وفي كل منعطف يتم رفع حجج مختلفة كأنها "قميص عثمان"!! وأصبحت تلك الائتلافات تخسر كل يوم جزءًا من رصيدها الشعبي، بدلاً من أن تكسب أرضًا جديدة وتشكل كيانات سياسية تستطيع من خلالها إيجاد "قوة دفع" لأفكارها التي قد تكون مشروعة وإيجابية لكن لا يتوافر لها الآن السند الجماهير المطلوب.