«حاحمى العيال، حاحمى العيال كلهم واحد واحد النهاردة» هكذا هتفت «فاطمة» بمجرد أن رأت المياه تنساب من الصنبور لأول مرة داخل منزلها. هذا هو الحال فى قرية «بمها» بمركز «العياط»، وهى قرية قريبة جدا من العاصمة، وليست على أطراف الصحراء، كما أن نهر النيل على بعد عدة كيلو مترات منها، ومع ذلك فإن أهلها الذين يسكنون فى حوالى 450 منزلا يعانون من عدم وجود مياه نقية داخل البيوت، فالمياه المتاحة لديهم من الطلمبات، وهى مياه شديدة الملوحة يستخدمونها بالكاد فى التنظيف وسقاية مواشيهم. أما بالنسبة لمياه الشرب فعليهم السير لمسافة كيلومتر من أجل شرائها. هكذا تحالف العطش مع الفقر فى «بمها» والغالبية العظمى لا يستطيعون ادخار قيمة المبلغ، الذى تطلبه شركة المياه مقابل المقايسة الخاصة بمد خط مواسير فرعى يمتد من ماسورة المياه الرئيسية الموجودة بالقرية. وهى مقايسة يتم تحديد قيمتها حسب المسافة بين المنزل والماسورة الرئيسية، مما يجعل المبلغ المطلوب قد يصل إلى أربعة آلاف جنيه. من بين هؤلاء الفقراء.. أم لثلاث بنات وولدين أحدهمها رضيع. لم يكن عدم توفر المياه داخل بيتها يضطرها فقط إلى أن تخرج يوميا من أجل إحضار ما تستطيع أن تحمله من مياه عبر «مشوار جامد قوى»، على حد تعبيرها، وإنما كانت وأفراد أسرتها يضطرون إذا ما أرادوا قضاء حاجتهم أثناء الليل أن ينتظروا حتى سطوع الفجر، كى يذهبوا إلى أحد الغيطان من أجل قضاء حاجتهم، بعيدا عن الأعين، أما الاستحمام فهو رفاهية لا تحدث كثيرا، بل إن غسل الوجوه هدر للمياه التى يحصلون عليها بمشقة، فلا بد من الاقتصاد فى استخدام المياه حتى ولو كان الذبُاب الذى يتوافد على رضيعها من الكثرة إلى درجة أن مجرد «هش» الذبُاب نوع من إهدار الطاقة بلا نتيجة. فكرنا أنا وصديقى أحمد هيمن، فى مشروع «صورة من أجل حياة كريمة»، وبالفعل نجحنا عن طريق التصوير لجمع المال اللازم لإدخال ماسورة مياه نقية إلى بيت فاطمة. وجاء مشهد نزول أولى قطرات المياه من الصنبور مشهدا دراميا أسطوريا لا تستطيع أحسن ممثلات العالم تجسيده بكل هذه العفوية والتلقائية ولا عبر هذا السيناريو، الذى من الصعب أن يتخيل الكاتب البارع أن يتشكل عبر الصورة التالية. فبمجرد أن تدفقت المياه من الصنبور إذا بالكلمات تتدفق على لسان فاطمة عبر موجة من السعادة والتحرك بحيوية لا شعورية وهى تكرر كأنها تهذى: «حاحمّى العيال، حاحمى العيال كلهم واحد واحد النهاردة»، ثم استرخت عضلات وجهها مع ابتسامة عادت من الغياب بعد سنوات طويلة.