«نقطة مياة تساوى حياة».. حكمة عظيمة لا يشعر بعظمتها إلا من حُرم من المياه أو عانى من أجل العثور عليها، ليس مياه الشرب فقط، ولكن بالتأكيد تلك الكمية من المياه التى نحتاجها داخل الحمام، وتحديدا أثناء قضاء الحاجة، فإذا انقطعت المياة لدقائق معدودة نكاد نشعر بأننا فى صحراء جرداء، خاصة إذا احتاج أحدنا لقضاء حاجته بينما المياه مقطوعة، فماذا عن أسر وقرى بأكملها تعانى نقص المياه؟! «الست موحة» جمعت فى منزلها بين المأساتين نقص مياه الشرب وعدم وجود حمام أصلا، أضف إلى ذلك عدم قدرتها على المشى وزحفها على الأرض حتى تدبر شؤون منزلها. «الست موحة» أحد أهالى قرية «بيدف» المنسية الواقعة بجانب قرية «بمها» بمركز العياط التابع لمحافظة 6 أكتوبر، حيث تعانى هذه القرية من الفقر الشديد وعدم قدرة أهلها على توصيل المياه لمنازلهم، وهو ما دفعنى أنا وصديقى المصور «أحمد هيمن» لاستخدام الكاميرا فى تصوير رواد المعارض الفنية الكبرى نظير مبالغ قمنا بإنفاقها فى مساعدة أهالى القريتين على توصيل المياه. «الست موحة» تبلغ من العمر 75 سنة.. مأساتها فريدة من نوعها، حيث فقدت نظرها منذ بضع سنوات، وزوجها يكاد يتحرك متكئا على عصا تشبه النبوت، يسكنان فى منزل صغير بين الغيطان، وبمجرد أن تخطو قدماك هذا المنزل سيخطف بصرك عدة أشياء لا تستطيع تجاهلها هى حطام راديو على رف خشبى معلق على الحائط، فوق هذا الرف سترى نافذة ستائرها عبارة عن أكياس بلاستيك، وسرير متهالك أسفلهما، و«فَسَحَةَ» صغيرة. المنزل يبعد عن الطريق الأسفلتى نحو خمس عشرة دقيقة، وهذه قمة المأساة بسبب ابتعاد المنزل عن ماسورة المياه الرئيسية الموجودة على أحد جانبى الطريق، والتى يقصدها أهل القرية للحصول على «جركن» مياه للشرب فقط بعد معاناة طويلة، بسبب الزحام. وإذا أرادت «الست موحة» قضاء حاجتها تقوم بالزحف إلى خارج المنزل حتى لا تلوث المنزل، وعادة ما يأتى لها الزوج ب «جركن مياه صغير» أو يملأ لها زجاجة بلاستيك كى تستخدمها فى قضاء حاجتها، ثم تنظف مكانها بالماء الذى هو فى الأساس سلعة نادرة. هذه المأساة دفعتنا للتفكير فى طريقة نساعد بها هذه الأسرة البائسة، ففكرنا فى تركيب حمام «بلدى» داخل المنزل وهو عبارة عن فتحة فى الأرض تؤدى إلى الصرف فى مواسير، وبما أنه ليس من الممكن مد مواسير صرف صحى إلى المنزل، فإن الحل هو توصيله إلى ما يسمى «طرنش»، وهو عبارة عن خزان مدفون تحت الأرض لحفظ الصرف، ويتم تنظيفه وشفط ما بداخله من حين لآخر. كادت الست موحة أن تطير من الفرح عندما قمنا بشراء الأشياء اللازمة للحمام مثل الخزان وماسورة صرف وغطاء من البلاط، ليوضع فوق الحفرة التى سيدفن فيها الخزان تحت الأرض. وأثناء الحفر حدث مشهد حرك مشاعر الجميع، عندما قام زوج الست «موحة» بلمس الغطاء وعيناه فيهما نظرة امتنان، ثم جلس بجانب الغطاء وقبض عليه بكلتا يديه وكأنه يقول له «مش هاتروح منى فى حتة». انتهى الحفر وتم دفن الخزان تحت الأرض، وأثناء وضع اللمسات الأسمنتية الأخيرة على الغطاء قام زوج الست «موحة» باحتضاننا بينما كانت الست «موحة» المريضة تجلس على سريرها تراقب ما يحدث بأذنيها، وعندما قال أحد العمال: «خلّصنا شغل» ظهرت على وجهها ابتسامة كبيرة أظهرت السنّة الوحيدة الباقية فى فكها. قمنا بتنظيف موقع الحفر ولملمنا حاجاتنا وهممنا بالرحيل، ولكن استوقفنا ونحن على باب المنزل صوت الست «موحة» قائلة: «ممكن أطلب منكم طلب تانى يا حبايبى، بس مش عايزة أبقى بتّقل عليكم» فرددنا تقريبا فى نفس اللحظة «إنتِ تأمرى يا حاجة» فقالت «أنا نفسى أشوف الدنيا، أنا نفسى فى راديو».