يشغلني دائما ليس فقط الحالة أو الحالات التي نعاني منها, أو تلك الفرص التي نفقدها, أو الكوارث التي نواجهها, وإنما الأسباب التي قادت إليها حتي يمكن معالجتها والتعامل معها. وعندما طالبت بأن تكون مصر دولة طبيعية تساءلت أيضا كيف وصلنا إلي هذه الحالة وهل صحيح أن ذلك نتاج نظام حكم بعينه, أم أن في الأمر تركيبة من الأسباب التي تتداخل فيها عوامل شتي. وفي الأسبوع الماضي عندما طالبت في مقالي بالذهاب إلي البحر سكانا وصناعة وخدمات, أو بمعني آخر رسم خريطة سكانية جديدة لمصر, لم يكن ذلك طرحا لطريق آخر للتنمية, وإنما أيضا بحثا عن تغيير الطبيعة النفسية والفكرية للمصريين الذين عاشوا لآلاف السنين في قالب النهر والصحراء. وللحق فإن هذا الحلم ليس جديدا بالمرة, وبشكل ما فإن شبكات الترع المصرية كان الهدف منها مد الوادي المصري إلي أقصي ما يستطيع من اتساع داخل الصحراء القريبة; ولكنها في النهاية لم تخل من المعادلة الأبدية بين النهر والصحراء والناس. ولكن الأمر فرض نفسه مع كل عصر, وربما كان شق قناةالسويس هو أول اختراق جغرافي كبير عرفته مصر نجم عنه بالإضافة إلي فوائده الاقتصادية العظمي, إنشاء ثلاث مدن, صارت محافظات, هي الآن الأكثر تقدما بين قريناتها في مصر كلها. وفي عصر الرئيس عبد الناصر, ومع الأحلام العظمي التي نتجت عن مشروع السد العالي, تردد كلام كثير عن مشروع آخر هو منخفض القطارة الذي يمد ذراع البحر الأبيض المتوسط إلي قلب الصحراء الغربية مولدا عالما جديدا لم تعرفه مصر, ولا الدنيا من قبل. ولكن عصر الزعيم انتهي بهزيمة يونيو ولم يبق منه خارج الوادي إلا ما عرف بمديرية التحرير, وهي منطقة أرض زراعية تم استصلاحها في الصحراء, ولا أدري ما الذي جري لها منذ ذلك الحين لأنها تضاءلت تماما في الذاكرة التاريخية ربما لأنه لم يعد فيها ما يغري بالحديث. وتكرر الأمر في عصر الرئيس السادات ضمن الأحلام الكبري التي واكبت نصر أكتوبر, وكان مشروع الصالحية هو باكورة غزو الصحراء, ولكن قائد العبور مضي بالاغتيال من قبل الذين تعجبوا من تحريره لأرض مصر قبل تحرير فلسطين, ومعه ذهب مشروع الصالحية إلي حيث ذهبت مديرية التحرير. ومع عصر الرئيس مبارك أخذت الفكرة أشكالا عدة كان منها الظاهر الذي أخذ ما يكفيه من إعلام مثل مشروع توشكي, وقناة النيل التي ذهبت من أسفل قناةالسويس إلي سيناء لكي يكون لها نهر لأول مرة في التاريخ, والآن وصلت المياه, ولكن الزراعة لم تقم بعد؟!. وكان منها ما لم يلاحظه أحد وهو أن الوادي القديم توسع دون مظاهرة أو إعلان, ففي عام1980 كانت مساحة الأرض الزراعية في مصر قد تدهورت إلي5.7 مليون فدان, وهي التي ثبتت معظم القرن العشرين عند مساحة6 ملايين فدان حيث كان يجري استصلاح مساحات توازي ما يتم هدره بسبب التوسع العمراني حتي اختلت المعادلة وأخذت الأرض الزراعية في النقصان. ولكن الثمانينيات شهدت لأول مرة منذ وقت طويل عكسا لهذا الاتجاه نتيجة عملية التحرير الاقتصادي في قطاع الزراعة وتصدير المنتجات الزراعية مما أدي ليس فقط إلي تعويض الهدر والتجريف من أجل التوسعات العمرانية, وإنما إلي زيادة مساحة الأرض الزراعية إلي8.6 مليون فدان. ولم يكن التطور والتغيير في الخريطة بهذه الطريقة إلا توسعا آخر في معادلة الناس والصحراء والنهر قام علي استخدام الأخير بطريقة أكثر كفاءة سواء كانت مياهه فائضة خلف السد العالي, أو كانت مياها متسربة في الأرض تكون مخزونا جوفيا للآبار. أما التوسع الحقيقي في اتجاه البحر فقد بدأ بمد عملية الاصطياف للطبقات العليا في الحكومة والدولة إلي الساحل الشمالي من خلال قري مراقيا ومرابيللا حتي وصلنا إلي مارينا بعد أن باتت الإسكندرية لا تطاق مع تدهور بنيتها التحتية حتي التسعينيات من القرن الماضي. وبعد الحكومة دخل القطاع الخاص والتعاوني لكي تمس أقدام المصريين مياها لم يمسسها أحد منذ أن قامت كليوباترا بإنشاء حمامها الشهير في مرسي مطروح. ولكن ما كان اصطيافا ما لبث أن تحول إلي استثمارات هائلة دخلته صناعة السياحة بإقدام واضح, وبعد ثلاثة عقود تقريبا ظهرت مدن كاملة مثل شرم الشيخ والغردقة ومرسي علم ورأس سدر, ومع هذا وذاك بدأ الوعي يزداد ببحار سيناء وخلجانها, وظهر البحران الأحمر والأبيض ظهورا آخر في الفكر المصري حتي طبعت نفسها علي منطقة العين السخنة لكي تجعل من الصناعة والخدمات والسياحة والبحر وحدة نفسية جديدة تماما علي المصريين. هل كان يحتاج ما تحقق كل هذا الزمن, وهل كان بوسعنا تحقيق المزيد والوصول إلي البحر بخريطة جديدة لمصر ومعها كتل سكانية تفرج عن الوادي ازدحامه وقلة حيلته وموارده مع كثرة العيال وزيادة العدد؟ والإجابة هي بالمطلق أنه كان ممكنا تحقيق ما هو أكثر, وبنتائج أكثر اتساعا وأعمق فائدة, ولكن ما جري لم يكن ليجري والوعي المصري كله مركز علي الوادي الضيق إلي الدرجة التي جعلت الضيق والازدحام جزءا من ثقافتنا. وكم كان مضحكا أحيانا أنه عندما نبدأ في البناء داخل الصحاري حيث أرض الله واسعة, إذا بمهندسينا يبنون شوارع ضيقة, ومعها بيوت أكثر ضيقا, وفي داخلها حجرات لا تزيد كثيرا علي تلك المعروفة في مصر القديمة. الثقافة إذن كانت عاملا هاما لكي يكون ذلك كذلك, فالبحار مثل السماء والصحراء لهما سمات لا متناهية, أما النهر والوادي الذي تلاصقه وتطارده الصحراء فإنه مصاب باختناق دائم يضاعفه جماعة سكانية لا تكف عن الإنجاب, وعندما يكبر العيال لا يكفون عن المطالب, أما كبارهم فلا يكفون عن المطالبة بتوزيع الثروة وليس إنتاجها. وهنا نصل إلي السبب الجوهري الثاني, فالوصول إلي البحر ليس مجرد رغبة نفسية, أو تصور عقلي رشيد, وإنما هو أيضا مشروع اقتصادي يتطلب بنية أساسية من الطرق والمطارات التي تصل الوادي بالبحر, وسكك حديدية تربط الصحراء بالماء, ومحطات للطاقة تقدم للمصنع والفندق والمدينة احتياجاتها. هنا فإن نظرة علي الموازنة العامة تكفي لكي توضح الأسباب كلها هنا, فإن نظرة علي الموازنة العامة تكفي لكي توضح الأسباب كلها, فالأجور تشكل حوالي24% من إجمالي المصروفات, ويمثل الدعم حوالي30% في المائة من مصروفاتها, بينما توجه نسبة23% من المصروفات لفوائد الدين العام, وحوالي7% لشراء السلع والخدمات, ويتبقي للاستثمار حوالي9% فقط, ومابعد ذلك أشياء أخري محدودة. وبعيدا عن الأجور والدعم والدين, فإن من الطبيعي في هذه الحالة أن توجه النسب الأخري المحدودة أصلا من الموارد إلي حيث يوجد أصحاب المصالح, والقادرون علي الضغط علي الأجهزة الحكومية المختلفة, وهم في هذه الحالة القاهرة والوجه البحري حيث توجد الكتلة السكانية الرئيسية للبلاد, بل وحيث توجد مواردها الرئيسية من الصناعة والزراعة والخدمات, ومعهما المعاهد والجامعات وجماعات الضغط من النقابات والجمعيات. وخلال العقدين الأخيرين صرخ الصعيد بأشكال متعددة, ومن ثم بدأ في الحصول علي بعض من الموارد حتي لم يبق بعدها إلا النزر اليسير الذي خلق طريقا مثل الذي يربط بين قنا وسفاجا, أو الآخر الذي يربط القاهرة بالعين السخنة. والحقيقة أننا نحتاج مئات من كل ذلك طرقا ومطارات ومحطات للطاقة ومراكز للاتصالات ومعهما جميعا بنية تعليمية تختلف تماما عن البنية القائمة في الوادي حيث إن إنسان البحر الذي نتحدث عنه له صفات مغامرة ومبادرة وساعية إلي الربح والاكتشاف, وكلها تختلف عن الصفات المحافظة لإنسان وادي النيل. المسألة إذن أن ذلك كان كذلك, أي أننا لم نحقق ما نصبوه من خريطة جغرافية وسكانية لمصر ترفع من مكانتها التنافسية في العالم وتستغل الأصول الجغرافية/ الاقتصادية التي نملكها استغلالا رشيدا; كل ذلك لأننا لم نكن نعرف ما نسعي له, وما كان لدينا الثقافة التي تحثنا علي السباحة في شطآن بعيدة; ولأنه كانت لدينا أولويات أخري حتمتها ظروفنا السكانية وضغوطها من أجل توزيع مواردنا في اتجاهات بعينها. والمخرج من ذلك كله هو بديلان لا ثالث لهما: الأول أن نستمر في السير علي طريقة السلحفاة التي نسير عليها الآن, أي حسب ما يتبقي من الموازنة العامة, فنظفر بطريق عظيم كل عقد من السنوات, ومحطة للطاقة كلما جاءتنا منحة من دولة غنية, وبشكل ما فإن قطاع السياحة باتت فيه قوة اندفاع قد تجعل الأمور أفضل قليلا عما كنا عليه منذ ثلاثة عقود. والثاني هو أن نفتح الأبواب علي مصاريعها للاستثمار الاقتصادي في أراض ومواقع لا نعرفها ولا نزورها ولا نصل إليها, وفيما عدا سيناء لأسباب معروفة فإن الملكية يجب أن تتاح لكل من يوفر مشروعا وفرصا للعمل واستثمارا يبعث الحياة من الشركات الدولية والعربية والمحلية. وفي هذه الحالة فإن الأوضاع المصرية سوف تتغير تماما, وبدلا من أن يعمل بلد بأكمله وموارده من أجل الإنفاق علي جهاز إداري وبيروقراطي فقير يحتاج بعد المرتبات إلي كل أنواع الدعم الصريح منه والخفي, فإن هذا الجهاز سوف تكون مهمته تنظيم عملية تنمية واسعة تمتد أطرافها إلي كل الحدود والشطآن المصرية. البديل الأول نعرفه وربما نسخط عليه ونتساءل عن المسئول ببراءة شديدة, والثاني يحتاج شجاعة الخروج مما اعتدنا عليه, وتواضعنا علي السير فيه لأجيال وعقود طويلة. الأول كلنا شركاء فيه, ويعطينا الخصوصية التي لا نكف الحديث عنها بل إنها أصبحت جزءا من أصول الوطنية; والثاني يعني احتضانا واتصالا وعناقا مع العالم الذي نعيش فيه, فكلما زادت قدراتنا التنافسية لا يعود للخوف معني, ولا للتردد سبب. [email protected] المزيد من مقالات د.عبد المنعم سعيد