تخيل أنك اشتريت سيارة جديدة، ودفعت ثمنها مبلغاً محترماً، ثم أنهيت إجراءات ترخيصها، وملأت خزانها بالوقود، وأجّرت سائقاً محترفاً، ثم طلبت منه أن يذهب بك إلى موقع محدد، لكن هذا الأخير لم يكن راضياً عن وجهتك تلك.. لقد أخذك إلى محل آخر يناسب ذوقه، أو يحقق مصالحه، أو يلبى احتياجاته. وهب أنك من هؤلاء الذين تطربهم الألحان والمعزوفات الموسيقية؛ وقد أردت أن تُسمع الجمهور ألحاناً مميزة، تعتقد أن من مصلحتك أو مصلحتهم أن يستمعوا إليها؛ ولذلك فقد بحثت عن زمار محترف، ودفعت له أجره، وطلبت منه أن يعزف لحنك المختار.. لكن هذا الأخير لم يكن مقتنعاً، فأخذ يعزف الألحان التى يعشقها هو. لقد تم كسر القاعدة هنا. فمن يملك السيارة ويملأ خزانها بالوقود من حقه أن يحدد وجهة السير، ومن يدفع للزمار يستحق أن يسمع اللحن الذى يطربه، وإذا حدث عكس ذلك، وأياً كانت المبررات والنتائج، فإن ثمة ضرراً بالغاً سيلحق بصناعة السيارات، كما أن هؤلاء الذين يستأجرون العازفين ربما يحجمون عن فعل ذلك لاحقاً. يحدث شىء من هذا القبيل أحياناً فى صناعة الإعلام؛ فالمالك يضخ المال، ويبنى الإدارة، ويستكمل دائرة الصناعة، ويوظف المحترفين، ويخاطر بالنفقات والسمعة والجهد واحتمالات الخسارة، لكن سيطرته على الوسيلة التى يملكها تضعف، أو تُخطف منه إلى وجهة لا يريدها وربما لا يعلمها، أو يطالبه الجمهور بعزف ألحان معينة وترديد أقوال بعينها. يبقى الإعلام صناعة، ويعيش ويزدهر عندما تستوفى تلك الصناعة استحقاقاتها؛ فتنشأ الفكرة، وتُطور «الماركة»، وتُستكمل التقنيات والآلات، وينهض التنظيم، ويُضخ المال، وتُرسى السياسة التحريرية، ويُنتج المحتوى، وتحمله العربات أو الأثير أو الشبكة العنكبوتية إلى جمهوره المختار. فإذا ضعفت سيطرة المالك على الوسيلة الإعلامية، وراحت تقوده هى إلى وجهة لا يعلمها أو لا يريدها، فقد تنتفى ذرائع التملك؛ فتبور الصناعة وينحسر عنها الطلب، وإذا تخلى أصحاب المصالح الحقيقية والإيجابية عن تملك الوسائل، فإن آخرين سيأتون حتماً لامتلاكها. وإذا أراد المالك أن يقود الوسيلة بنفسه، رغم أنه لا يحسن القيادة، فحتماً سيأخذها إلى التصادم والتحطم؛ إذ سيصبح كزمار مدعٍ يعزف نشازاً يصم الآذان، مما يرهق المستمعين، ويصيبهم بالضجر، ويدفعهم حتماً إلى الانصراف. وإذا تخلى المحترفون من الإعلاميين عن أدوارهم فى تطوير المنتج الإعلامى وبلورته فى صيغة احترافية جذابة تنسجم مع الاستحقاقات المهنية؛ فسيدفعون إلى السوق بأرتال من المدعين والهواة، كما أنهم سيفقدون فرص التوظيف، ويقللون الطلب على أمثالهم، إن هم لم يلبوا حقوق المالك والجمهور فى آن. حين أُعلنت أنباء الصفقة الشهيرة الأخيرة بين ميردوك والأمير الوليد بن طلال، أُصيب بعض الجمهور والنخب فى العالم العربى بالقلق والهلع؛ لأن ميردوك قد يحول إمبراطورية الوليد الإعلامية، ذات النفاذ الجيد فى الأذهان والوجدان العربى، إلى رأس جسر لأفكاره «الصادمة والمغرضة والمشينة»، وتناسى النقاد تماماً أن الجمهور والفاعلين وأصحاب المصالح القومية تخلوا سلفاً عن مساحة استراتيجية فى نطاقهم الحيوى، إلى أن جاء الآخرون لاستغلالها. يدفع الجمهور العربى الضرائب ويوفر النفقات اللازمة من قوت أولاده ليملأ خزائن الحكومات، فتطور تلك الأخيرة وسائل إعلام تحت اسم الدولة وفى خدمة أهدافها، لكنها، مع الأسف، تخطفها وتحولها إلى وسائل دعاية بائسة لأرباب الفساد وانعدام الكفاءة من المسؤولين والقادة. ويقدم رجال مال وسياسة على تطوير وسائل إعلام لتحقيق الأرباح، أو الدعاية، أو اتخاذ الركائز السياسية والتأثيرية، أو للوجاهة؛ فُتخطف الوسائل منهم، أو تتحول إلى مقالب للقاذورات، أو مخالب لأبشع المصالح وأكثرها فساداً واستغلالاً. وإلى أن يعى الجمهور أنه كمالك لوسائل الإعلام العامة يستحق أن يحدد وجهة سيرها فى إطار المصلحة العامة، وإلى أن يمتلك القدرة على بلورة إرادته وتجسيدها فى الواقع، وإلى أن يعرف بعض المالكين أنهم قد يستطيعون امتلاك وسيلة، لكنهم حتماً ليسوا قادرين على صياغة الأخبار، وإلى أن يدرك المحترفون من الإعلاميين ضرورة أن يلتزموا الاعتبارات المهنية دون افتئات على حقوق المؤسسة وأصحاب المال، ستظل صناعة الإعلام فى العالم العربى تعانى الأزمات. يحتاج العالم العربى إلى مقاربة جديدة لصناعة الإعلام التى يتعاظم تأثيرها وازدهارها، بحيث تنسجم استحقاقات أطراف الصناعة وجمهورها وتُحترم مصالحهم، ولن يتحقق هذا إلا بتطوير أنماط ملكية جديدة تعاونية بالأساس، بحيث يشترك الجمهور الواسع فى ملكية الوسيلة، ويختار لها إدارة محترفة، تأخذها إلى وجهة تحقق أكبر قدر ممكن من مصالح الجميع، أو على الأقل تجنبها مخاطر العوار والتصادم، ولا تترك مساحات واسعة بكراً جرداء يأتى المغرضون لاحتلالها.