بعد قرابة 15 شهرًا من الحرب فى غزة منذ 2023، تنفس أهل غزة الصعداء، وأصبح بإمكانهم أن يناموا لأول مرة فى هدوء، دون خوف أو قلق من الانفجارات المتتالية، والقصف الناجم عن الغارات الإسرائيلية، بعد اتفاق وقف إطلاق النار وعودة النازحين إلى القطاع، ففى غزة، حيث الأمل يتشبث بالحياة وسط أنقاض وركام البيوت، يحل شهر رمضان هذا العام مختلفًا عن كل عام بعد أشهر من الحرب التى خلَّفت آثارها المدمرة على كل شىء، يأتى الشهر على سكان القطاع وقد أنهكتهم الحرب والدمار، وفقد كثيرون منازلهم وأصدقاءهم، وأصبح العيش فى الخيام هو الواقع اليومى لعشرات الآلاف من العائلات. وفى شوارع غزة التى لطالما تزينت بالفوانيس والأنوار كل عام، لايزال الرماد يغطى الكثير من الأزقة، الأسواق التى كانت تضج بالحياة فى مثل هذه الأيام صارت شبه خالية، والأكشاك التى كانت تمتلئ بألوان التمر والمكسرات لم تعد كما كانت، هنا لايزال أصحاب المتاجر يحاولون العودة رغم الخراب، والباعة يفرشون بضاعتهم المتواضعة وسط الدمار، وكأنهم يقولون إن الحياة يجب أن تستمر رغم الألم، مثلما وصف معتز السيد. «السيد» قال ل«المصرى اليوم»: «اعتدنا فى كل رمضان أن نجتمع حول سفرة واحدة، أما الآن فقد صارت موائدنا ناقصة بغياب من فقدناهم»، تجلس أم عبدالله، وهى أم لخمسة أطفال فقدت منزلها فى القصف، فى خيمة أقيمت على أنقاض بيتها، تقول بحزن: «رمضان فى غزة هذا العام ليس مجرد صيام عن الطعام والشراب، بل هو صيام عن الأمان، عن دفء العائلة التى فرقتها القذائف، وعن منازل كانت تحمى الأحلام والذكريات». ولطالما كان شهر رمضان للأطفال هو شهر الفوانيس والحلوى والسهرات العائلية، لكن فى غزة اختلف الوضع كثيرًا منذ الحرب، أطفال كثيرون فقدوا هذه الفرحة، «ريم»، طفلة فى التاسعة من عمرها، تحمل فانوسًا بلا ضوء، وتقول بألم: «كان أبى يشترى لى فانوسًا مضيئًا كل عام، لكنه رحل فى القصف، ولم يعد هناك من يضىء لى رمضان». نجلاء الغلايينى، من غزة، تروى ل«المصرى اليوم»: «كان شهر رمضان يطل كل عام بزينة تملأ البيوت والشوارع، وروائح الطعام التى تفوح فى الأزقة، واستعدادات تمتد من تجهيز المنازل إلى تخزين المؤن للعزائم وموائد الرحمن، بات الانتظار اليوم مختلفًا بعد الحرب». وتضيف: «اعتدنا أن نستقبل رمضان بلهفة، الكبار والصغار على حد سواء، كنت أحتفظ بزينة رمضان وأعيد تعليقها كل عام، وكان شباب الحى ينظفون المساجد ويجهزونها لصلاة التراويح، كما كنا نزين الشوارع ونشترى الهدايا لزيارة الأرحام، لكن كل ذلك تبدد منذ العام الماضى، عندما جاء رمضان وسط الحرب والنزوح والخيام، تفرقت الأسر بين من سافر أو نزح، ومن استشهد أو أُسر، لم نعد نفكر فى طعام أو زينة أو فوانيس، حتى المساجد دُمرت، وحُرمنا من صلاة التراويح«. بمرارة تكمل »الغلايينى«: «هذا العام لا يختلف كثيرًا عن سابقه، لكنه أشد ألمًا. عدنا إلى قطاع غزة فوجدناه خرابًا.. لا ماء، لا كهرباء، والمدينة مدمرة بالكامل، الكثير من العائلات لاتزال تعيش فى الخيام، والنساء اللاتى فقدن أبناءهن أو أزواجهن أو أحبتهن لم يعد لهن قلب يحتفل أو يفرح». وتتابع »الغلايينى« حديثها: »رغم كل هذا، تحاول غزة أن تستقبل رمضان بما تبقى من قوتها، إنه شهر الله، سنستعد له بقدر ما نستطيع، وسنصوم ونقيم الليل رغم الجراح». وبصوت يختلط فيه الحنين بالألم، قالت جنة نوفل، من سكان منطقة جباليا: «رمضان هذا العام لم يأتِ كما اعتدنا أن نستقبله فى غزة»، مضيفة: «الفرحة ممزوجة بالحزن، لم يعد رمضان كما كان، فقدنا الكثير من الأهل والأصدقاء، حتى أنا فقدت تجارتى الخاصة بى. الشوارع التى كانت تضج يومًا بالألوان والأنوار، أطفأها دمار الحرب، الناس لاتزال مرهقة، وكثيرون فقدوا بيوتهم وأصبحوا بلا مأوى، فكيف لهم أن يفكروا فى الزينة وهم يبحثون عن سقف يحميهم، وعلى الرغم من المعاناة التى نعيشها فى غزة، نتشبث بالأمل، حيث يحاول التجار العودة إلى حياتهم وتجارتهم»، وتضيف «نوفل» فى حديثها: «امتلأ سوق غزة بالزينة والفوانيس استعدادًا لقرب شهر رمضان الكريم»، وتقول بأسى: «الإقبال على شراء الزينة خفيف جدًا، لم يعد هناك نفس الشغف، فالوجع أكبر من أن تضيئه الأنوار». براءة النجار، من غزة وتقيم فى مصر منذ بداية الحرب، قالت: «هذا رمضان الثانى الذى أقضيه بمصر بعيدًا عن أهلنا الذين لايزالون فى غزة»، مشيرة إلى أن «الأجواء فى مصر مليئة بالبهجة والفرحة من حولنا، لكن قلوبنا لاتزال مثقلة بالحزن بسبب ابتعادنا عن وطننا وأحبابنا، كنا نتمنى أن نقضى رمضان فى بلدنا ونحن نشعر بالأمان والراحة». محمود العطار، صاحب محل بقالة فى غزة، أوضح: «كان الناس فى السابق يشترون قبل الحرب كميات كبيرة من التمور والمكسرات، أما اليوم فمعظمهم يأتون لشراء الضروريات فقط مثل الطحين والزيت والسكر، بسبب الحرب وارتفاع الأسعار»، مضيفًا: «رغم ذلك نحاول أن نوفر ما نستطيع من طعام وشراب». وتابع: «هناك من يحاول أن يضىء الأمل وسط هذا الظلام، فقد بدأت المساعدات الرمضانية توزع على العائلات فى غزة، كما بدأ بعض الأهالى بتنظيم وتحديد إفطارات جماعية فى الساحات، وقد بدأت المحال والأسواق فى العودة تدريجيًا للعمل والتجارة». ومازالت بعض المناطق تعانى من انقطاع التيار الكهربائى بشكل كامل ونقص المياه، مما يصعب من مهمة تجهيز الطعام فى شهر رمضان. تقول «أم أنس»، التى تعيش وسط أبنائها فى منزلها وسط الركام منذ عودتهم من النزوح إلى غزة: «نطبخ على الحطب أحيانًا، ونقسم الطعام على وجبتين فقط فى اليوم، لكن رغم ذلك نحمد الله أننا مازلنا أحياء على أرضنا».