كان الأستاذ إبراهيم نافع فى وقت طويل من مسيرته المهنية، نقيباً للصحفيين، ورئيساً لاتحاد الصحفيين العرب، وعضواً فى مجلس الشورى، إلى جانب رئاسته مجلس إدارة وتحرير مؤسسة الأهرام، وكان للدكتورة إيناس أبويوسف محاضرة بالغة الدلالة والعمق، حكى لى تفاصيلها زميلى الموهوب هيثم دبور، فرأيتها تعبر بشكل واضح عن أهم معوقات التحول الديمقراطى الحقيقى فى البلد، سواء على مستوى الممارسة السياسية، أو على مستوى ضبط الأداء الإدارى ومكافحة الفساد، وتحقيق نموذج الإدارة الرشيدة، سواء فى الجهاز الإدارى أو فى أى مؤسسة عامة أو خاصة فى البلد. كانت الدكتورة إيناس تقول لتلاميذها فى كلية الإعلام: «تخيل أنك صحفى فى الأهرام، ثم حدث خلاف مهنى بينك وبين رئيس التحرير، لمن تشكوه؟ ستذهب لتشكوه إلى رئيس مجلس الإدارة، فستجد أن رئيس مجلس الإدارة هو نفسه الأستاذ نافع، فتقرر أن تلجأ لنقابة الصحفيين التى تحمى حقوقك، فتجد نافع أيضاً هو نقيب الصحفيين، ربما تحاول أن تشكوه فى اتحاد الصحفيين العرب فتجده رئيسه أيضاً، حتى عندما تفكر فى ترك كل الآليات المهنية، وتلجأ للقانون الطبيعى وتتقدم ضده بشكوى للنيابة، فسيواجهك كونه عضواً فى مجلس الشورى، ويتطلب نظر بلاغك إجراءات لرفع الحصانة أولاً عنه، أو الحصول على إذن بسماع أقواله»، وفى النهاية لن تجد أمامك سوى اللجوء إلى الله بالدعاء، أو الندم أنك وضعت نفسك فى يوم من الأيام فى خصام مهنى أو قانونى مع رجل عصى على المحاسبة. بنت الدكتورة إيناس قصتها على افتراض صغير وسط حقيقة كبيرة، ربما أرادت أن تمزح مع تلاميذها وتسخر من واقع لا يتعلق بالأهرام كمؤسسة صحفية فقط، لكن القصة كما حكتها تنقلك مباشرة إلى قول مأثور خالد يمثل كبد اليقين: «السلطة المطلقة.. مفسدة مطلقة»، أنت كمجتمع لا تعانى من الفساد كمرض قائم بذاته، لكن هذا الفساد بكل أنواعه ما هو إلا أعراض لمرض أصيل وخبيث ومتمكن اسمه «الاستبداد»، وهو سلوك لا يتعلق فقط بالسلطة السياسية، وإنما يمتد فى كل المؤسسات من الصحافة إلى قطاع الأعمال، ومن المدرسة إلى الجامعة، ومن الكنيسة والجامع إلى الأسرة. مكمن الداء فى كل ما نعانى منه هو التوسع فى الحصانات، وغياب آليات المحاسبة، أو وجودها دون تفعيل كامل، أو استخدامها بانتقائية تشكل فى جوهرها شكلاً من أشكال الفساد، وطالما هناك أشخاص أو مواقع فى مؤسستك وفى مصنعك وفى صحيفتك وفى الشارع كله، فضلاً عن مؤسسات الدولة لا يحاسبون، ولا توجد آليات محددة لمساءلتهم عند الضرورة، كما لا توجد آليات واضحة لضمان النزاهة والعدالة حين ينشب خلاف بين رئيس ومرؤوس، تضمن الحق المجرد، بعيداً عن المواءمات السياسية، والعدالة المطلقة، بعيداً عن الأهواء الشخصية، فلا تنتظر تقدماً على أى صعيد. قبل أن تقول لنا إنك رئيس ناجح، سواء كنت رئيس مؤسسة أو دولة، قل لنا ما هى آليات محاسبتك وضمانات مساءلتك، وإلا يبقى نجاحك محل شك باستمرار، لأن نزاهة التقييم تبقى مفقودة، باعتبار أنها تأتى من مرؤوسين لا يمتلكون ضمانات إفصاح حقيقية، ومن شركاء فى المصالح لا يمتلكون نزاهة كاملة، ومن مناخ يحكمه الاستبداد، وثقافة «تأليه» الحاكم..! [email protected]