«من أمن العقوبة أساء الأدب»... «إن لم تستحِ فافعل ما شئت»... مقولتان انتقلتا إلينا عبر موروثنا الثقافي والاجتماعي، وأي ما كانت حقيقة روايتهما أو الظروف التي قيلتا فيها إلا أنهما تمثلان وتفسِّران الوضع الراهن في مصرنا الحبيبة منذ عهود مضت، وللأسف فما زالت المقولتان تتحكمان وتسيطران على الأحداث الجارية في بلدنا حتى الآن، سواء من كبار المسؤولين أو أصغر موظف تنفيذي في الحكومة. فلم يكد يمر يوم على صدور الحكم الشائك في قضية خالد سعيد بالسجن المشدد 7 سنوات على اثنين من قتلته، إلا وطالعتنا الأخبار بضحيتين جديدتين من ضحايا الداخلية، أحدهما عصام عطا الذي فاضت روحه إلى بارئها في سجن طرة على يد سجانيه إثر تعذيبهم له، والآخر الطالب معتز أنور الذي قتل على يد أحد ضباط الدوريات في الشيخ زايد، ومهما كانت ملابسات وظروف الحادثتين إلا أنهما تدلان على أن المواطن المصري لم تزل تمتهن كرامته وإنسانيته، وأن العنجهية والفوقية والسلطوية هي التي تتحكم في أفراد السلطة التنفيذية الذين من المفترض أن يكونوا هم أول من يحافظ على القانون ويحترم تطبيقه، إلا أنهم أول المخالفين والمنتهكين له، فقد علموا أن ما يقومون به من جرائم لن يعاقبوا عليه، وإن عوقبوا فلن تزيد تلك العقوبة على 7 سنوات يقضيها في «منتجع طره»، فما المانع إذن من أن يقوموا بتطبيق القانون الوحيد الذي يؤمنون به ويحترمونه ألا وهو قانون «ساكسونيا». و«ساكسونيا» هي إحدى الولايات الألمانية، وكان القانون فيها يطبق على الرعاع أو الفقراء إذا سرقوا أو قتلوا، وحتى لا يشاع أنهم لا يعدلون بين أفراد الشعب والنبلاء فكان يتم أيضاً تطبيق القانون على النبلاء إذا ما أجرموا في حق الشعب، ولكن بطريقة مختلفة تفردوا بها، وهي أنه إذا سرق أحد أفراد الشعب أو قتل يحاكم وينفذ عليه الحكم الصادر ضده، أما إذا قام أحد النبلاء بالسرقة أو ارتكب جريمة قتل فيأتون بهذا النبيل ويقف في الشمس وتتم محاكمة ظله فإن سرق يحكم على الظل بالسجن أو الجلد، وإن قتل يحكم على الظل بالقتل. ويبدو أن الداخلية وأفرادها ليسوا وحدهم من أجادوا فن التعامل بقانون ساكسونيا وآمنوا به وأجلوه، إلا أن السلطة الحاكمة نفسها اتخذت من ولاية ساكسونيا قدوة يحتذى بها فعملوا على تأصيله وتطبيقه، بل إنهم فاقوا أصحاب القانون الأصلي، ونجد هذا جلياً فيما يحدث للنشطاء والمدوّنين من استدعاء للقضاء العسكري ومحاكمتهم عسكرياً بالرغم من التصريحات التي تكررت على مسامعنا أكثر من مرة بأنه لن يتم تحويل مدني للقضاء العسكري، ولكن ما يحدث على أرض الواقع ينافي كل ما يصدره المجلس من بيانات أو تصريحات، فهل تصدر تلك التصريحات بشأن بلد آخر غير بلدنا أم أن هناك من يراوغ ويتلاعب بما يقال؟ أم أنهم مازالوا يمارسون تلك اللعبة الهزلية التي بدؤوها منذ أن نزلوا إلى الشارع بناء على أوامر المخلوع، فلم يكن وقوفهم بجانب الثوار في الميدان إلا لاستيعاب الثورة ومحاولة الهيمنة والسيطرة عليها بعد أن تأكدوا أن صلاحية المخلوع قد انتهت، ولابد لهم من السيطرة على الثوار حتى يتمكنوا من إعادة تكوين السلطة السابقة بنفس المنهج والأسلوب. إن من يقرأ الأشهر التسعة الماضية يتضح له أن العقيدة العسكرية لم تكن مولعة يوماً بالديمقراطية - ولنا في مظاهرات فبراير 54 المثال الواضح على ذلك - وهي دائماً ما تلجأ إلى مختلف الأساليب لإجهاض ما حققته ثورتنا، وتضع العراقيل أمام مطالب الإسراع بالانتقال للحكم المدني، لتسعى لإرساء النظام الذي تريده هي، والشواهد كثيرة من حوارات مختلقة حول الدستور والانتخابات، إلى محاولة إغراق البلد في الفتنة، إلى المماطلة في إصدار قوانين العزل لكل من ساهم في إفساد الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ليس فقط من أعضاء الحزب المنحل بل كل من شارك في تلك الفترة، إلى أحداث السفارة ومذبحة ماسبيرو، إلى ابتذال الإعلام الرسمي وإغلاق القنوات ومحاولات ترهيب الإعلام المستقل وتكميم الأفواه واعتقال النشطاء، والمحاكمات الهزلية لأركان النظام المخلوع، وقتلة الثوار، وفساد الطب الشرعي. كل ما سبق أدخل البلاد في حالة من الفوضى العارمة سواء كانت مقصودة أم غير مقصودة، لكنها تخدم الهدف الأساسي للسلطة العسكرية وتجعل الأمور تسير في الطريق الذي رسموه منذ أول يوم نزلوا فيه للشارع، وما يسرّع من وتيرة الأحداث استمرار الفوضى الأمنية وتعالي أفراد الشرطة على الشعب، وممارسة العنف، وأيضاً ما يحدث من انفلات سياسي متمثلاً في تناحر جميع القوى السياسية وتصاعد اختلافاتها على حسب أهوائها ومصالحها الشخصية، فهذا أيضاً يصب في مصلحة العسكر، فكل تلك الفوضى تؤدي في النهاية إلى جعل المواطن في حالة نفسية وسياسية تدفعه إلى الإلحاح في طلب استخدام القمع ممن يحكمون لوضع حد لممارسات تلك القوى، وفي تلك الحالة يكون المجلس قد أضفى الشرعية الشعبية على سلطته، وما وثيقة السلمي إلا خطوة أخرى في تكريس المزيد من الفوضى والصراعات بين القوى السياسية المختلفة، وما هي إلا تكريس آخر في بناء دكتاتور جديد لا يؤمن إلا بتلك المقولتين المتوارثتين وبقانون «ساكسونيا». استفيقوا يرحمكم الله... هاني أبو الخير