هناك علي أطراف المدينة الكبيرة... ومن بعيد تري تلك البلدة الصغيرة ...يسكنها بشر... نعم بشر لونهم كألوان البشر العاديين... جلدهم كجلود البشر... ...ينامون ويستيقظون ... يأكلون ويشربون ... يتناكحون ويتناسلون ... يحكمهم زمن لايعرفون منه إلا الوقت الذي يعيشونه ... يثورون ويغضبون...هم إناس يتلونون...فيهم طباع الذئاب وفيهم طباع الحملان ...أي فيهم الطيبون والأشرار ... هناك تجد فيهم ذات الجلود الخشنة كجلود التماسيح ومنهم أصحاب الجلود الناعمة كالثعابين ...الكثير منهم كسالي لايعملون ... وإذا قاموا بعمل ما لايتمونه ...ومنهم من يعمل حتي الموت ولا يجد لعمله جدوي... يأتوا بأطفال بنات وبنين ولا يلقوا لهم بالا... بل يلقوا بهم في الأرض الواسعة من حولهم...فالأرض تسعهم... فأرضهم قبور وقبورهم أرض يعيشون عليها ...أطفالهم ممسوخون لا يعرفوا لهم هوية ...لا يعرفوا من أي الآباء أتوا بل هم في أحضان أمهات يبعن كل شئ حتي الكرامة ...أمهات يتضورن جوعا ويجوع معهم الأطفال...أمهات يلقون بأجنتهم في المراحيض أو بصناديق القمامة أو علي قارعات الطرق... لحم تأكله الكلاب... وهم يأكلون كل شيئ وبأي شيئ. هم دائما خارج نطاق البشر...لايحكمهم إلا قانون المصلحة وفي سبيلها لا يتورعون عن التضحية بأغلي الأشياء وأثمنها ..ولن تجد إلا البيع... وما أرخص الإنسان لكي يباع ويُشتري عندهم... حتي فلذات الأكباد والكرامة ما أتفهها وأرخصها ... هم لا يحلمون... ؟ فدائما الحلم يهذب الإنسان ويرتقي به ... وفي الحلم يكون المستقبل ... والعمل هو الطريق اليه. يأتي المساء وتجد تلك البقعة من الأرض نائمة في أحضان الطبيعة .. فهي أرض تلحفها السماء في زرقتها ...وإن أضائت فبنور القمر الساطع النائم بين السحاب الرقيق ...يمسح ببياضه علي وجه السماء... السكون يلف البلدة وكأنها في راحة عما تلاقيه ممن يعيشون فوقها ...كأنها أُم تلتقط أنفاسها بعد كد وتعب في خدمة أبنائها ...ولا يشق سكون الليل إلا طائر يرفرف بجناحيه يصرخ بصوت عالي معبرا عن يقظته بين أموات من بشر غلبهم اليأس...غلبتهم الحياة بكل ما فيها من صراعات... بشر يموتون في إستسلام ...يموتون من ضعف وفي ضعف يستيقظون...يهبون من رقدتهم بعد ساعات لتضج بهم الأرض في يومهم الجديد. وفي الليل يكون هناك الجانب الآخر من تلك اللوحة ...جانب مظلم ...أكثر سوادا من حلكة الظلام ...من تلك القلوب المليئة بالمآسي والخوف والرعب ... هناك من يستتر خلف شواهد القبور...من يستتر خلف الجدران...بين الأزقة والطرقات...بين ظلاال البيوت في الظلام ...الكل يبيع ...لكن ليس هناك شراء ...مقابل البيع ليس شراء ولكنه أيضا البيع والتنازل ...الهوان والمهانة... قل البيع مقابل البيع...بيع البشر ...الكل يبيع ولا يشتري. يحكم هؤلاء رجل ذا سطوة ونفوذ ... يأتي المال من طرق غير مشروعة ...من دم الفقراء...من إعتداء علي أرض وعرض ...استباح كل شيئ ... محاط بعصبة من رجال أشرار مسلحين بأسلحة من كل نوع مدربين علي سفك الدماء وإثارة الرعب والفزع بين أهالي البلدة ...وإن هو في داخل قصره فهم فوق الأسطح للحراسة وان سار في طريق فمحاط برجال لاتعرف لهم عددا ينشرون الرعب في كل مكان يزيحون من حوله ولا يسير في ركبه إلا رجاله ومن علي شاكلتهم من حاشية الظلم والنفاق ... في بيت من بيوت البلدة رجل قصير القامة ضئيل الجسم دائما لا تجده يعمل ...يذهب بإستمرار إلي ذلك المستشفي الحكومي ليأتي بأدوية يستخدم بعضها ويبيع بعضها ... في أجازة دائمة من عمله... أو منقطع عن العمل بمرض في القلب واعتلال في البدن... وهو دائم الشكوي ولذلك فهو قليل المعاش...لكن من أين يصرف علي هذه الكومة من الأولاد...سبعة من الأولاد والبنات والزوجة... الزوجة ...طويلة القامة تراها دائما تسير الي السوق بجلباب قديم وشنطة مهلهلة وحذاء بالي تنتعله كأنها تتسول...وهي دائما تشكو لكل من تقابله كما يفعل زوجها... لديهم من البنات خمسة ... كلهن متطلعات ...ناقمات...لاتراهم في الخارج إلا وتظن أنهن بنات من الأسر الأرستقراطية...لكن ليس للفقر أثر عليهن... الوجوه المغطاه بالمساحيق والملابس الضيقة أو المكشوفة التي لاتحمي ولا تستر... ولا يجدن من الأب أو الأخ الأكبر إعتراضا علي ما يلبسن أو مع من يخرجن أو يتكلمن فينظر لهن دائما علي انهن طموحات وكيف يتكسبن وعندما يعودن الي البيت محملين من مأكولات وهدايا لا يجدن إلا الأيادي الممدودة اليهن ...يد الأب أو الأخ أو حتي الأخت أو الأم ولايسألن من أين ؟ ومن أعطي ولماذا؟ انه نموذج من أحد النماذج الموجودة بالبلدة. أما ذلك الشاب مفتول العضلات يسير دائما ممسكا بسنجة أو سيف يستدعي لأي معركة أو يتحرش بأي فتاة أو رجل في الطريق...يعيش علي ما يسلبه من إتاوه يفرضها علي بعض الباعة أو عابري السبيل في طريقه ...لا تري له أب... دائما مسافر لا تراه ...أمه تعيش كما تهوي وأيضا تفعل كما يفعل ابنها وتستأجر علي معارك لحساب الغير وفتونه علي بعض خلق الله وكثيرا ما تجدها في قسم الشرطة لتقديم بلاغ كيدي بعد ان تجرح نفسها مجاملة اوبثمن تقبضه من بعض من مايدفعونها لذلك وبثمن. أما المعلم صاحب الشنب المبروم والعضلات المفتولة...صحته تمام لكن لا يستخدمها في أي عمل ...يجلس علي القهوة يدخن الشيشة وينتظر قدوم زوجته بالنقود من عملها وكذلك أولاده فهم يعملون صغاراً وكباراً حتي البنات يعملن في أي شيئ وكل شئ . وهذه المرأة ذات الصوت العالي ودائمة الشجار مع زوجها فهو رجل طيب أو قل ضعيف الشخصية أمامها ...يذهب دائما الي عمله ويأتي في الصباح متعب مكدود ويترك أمور الزوجة لوالده...دائما فضائحها كتير والناس بتسمع كل أسرار البيوت منها ... إمرأة غاوية ولينة دائمة هي مطمع أو تطمع من يحادثها من الرجال ودائما ما تحكي عن تحرش والد زوجها وكثيرا ما تصده. والحاج عزت ذو اللحية التي تصل الي صدره وزبيبة الصلاة محفورة علي جبينه تظهره برجل البر والتقوي دائما يفتي وبدون علم وبجهل مفضوح ولكن يظهر ميوله إلي النساء .. ويستحل أي شيء طالما في مصلحته أو يحرمه مادام لا يفيده.. وفي هذا الجانب من البلدة بائع السجاد والأدوات المنزلية ...يكتب شيكات علي الزبائن ويغالطهم ثم يرسل في تهديدهم بواسطة محامي لا يهمه إلا ان يقبض الثمن فهو لا يراعي حدود الله في أي شي ...دائما ما يبرر ويجد التبرير لكل قضية المهم الثمن. وإن لم يجد من القضايا التي يذهب بها الي المحكمة فيستخدم دهائه ومكره في الوقيعة بين الناس ليلتقط كل خلاف بينهم ويحوله الي قضية يرتزق من ورائها. أما حضرة الصول منير فهو دائما يدعي أنه نقيب في القوات الجوية ...يغيب بالأسبوع ويترك زوجته ومعها طفلتين ...تتركهم أمهم وتغلق عليهم الباب وتذهب الي حفلات السهر في خارج المدينة بعد أن تنتظرها السيارة في الظلام ثم تعود عند الفجر أو صباحا.. ولا أحد يسأل عن حال الطفلتين والكل في همومه مشغول. أما الأستاذ المحترم مدرس الإبتدائي وزوجته العصبية التي دائما ما يعلو صراخها ويصل بها الحد الي ضربه بأي شيئ تجده قريبا منها وللعجب فهو دائم الشكوي منها وطيعها طاعة عمياء ولا يقوي أن يبعد عنها فهي تسوقه بلجام كالحمار وسعيد بذلك . وعندما يأتي عيد ميلاد ابنتهما أو عيد ميلادها تأتي بالميكروفون وتقيم حفلة كبيرة وتدعو فيها زملاء الزوج والجيران وتلبس ما يحلو لها من ملابس تكشف عن جسدها وتتمايل ويأتي الزوج المحترم ويحزمها لترقص أمام الكل وتتمايل ثم تتحول الحفلة الي عرس الكل يتسابق ليلقي بالمال عليها وتستمر هكذا حتي الفجر. أما ذلك الرجل فهو طيب مسالم ...دائما يحب العيش في سلام ... ليس بشيخ ولا راهب ولا يعرف من دينه غير ماتعلمه بالفطرة من أبيه وأمه والمدارس التي تربي ودرس بها ... ولا يعرف في حياته سوي عمله وحياته البسيطة ... وقلبه الذي لا يعرف للحياة سوي وجه واحد فقط... يعمل ويتعامل بوجه واحد مع المحيطين به ..ولا يجد ولا يعرف إلا الظاهر من الحياة ...يري الحياه بلونين فقط ...الأبيض أو الأسود ولا يوجد لون آخر بينهما ...هكذا تعلم وتربي... أتي من بعيد ...بعيد جداً ...مئات الأميال... لا يعرف من أتي به إلي تلك البلدة ؟ نُقل الي هنا ...ليس إلا عقاب من رئيسه ...علي أي شئ ...لا يدري سوي أنه ثقيل الظل أودمه تقيل... لم يداهنه أو ينافقه كما يفعل بعض الزملاء... لم ينتظره صباحا وفي يده وردة كما يفعل بعضهم ولم يأتي له بهدية كما فعل أحد الزملاء عندما ترقي في درجة أعلي ولم يعرف الإبتسام في الوجه والتغزل والكيل في المديح والإطراء أمامه ..وفي الخلف يصفه بأفظع وأقبح الصفات ... ولا يضع فمه في أذنه لكي يطلعه علي أحدث أخبار الزملاء ...من غاب ...ومن أتي متأخراً. يرصد كل شيئ في هذه البلدة غير متطفلا او متلصصا علي من حوله ولكن يري بعينه ويرقب بأذنه ويسجل صورة من مجتمع مات أو ربما يكون في طريقه الي الموت أو هو داخل قبر يعج بالأحداث التي لا يراها ولا يعيها إلا من كان خارجها فهو شاهد كشاهد القبر. ومن يعيشون علي ارض تلك البلدة انما هم في يأس وكأنهم أموات ولكن لا يشعرون..لا يعرفون طعما للحياه السوية ولا يعرفون التحرر من عبوديتهم ولا كيف يتحرروا انهم في ظلم بين فهم ظالمون لغيرهم ولأنفسهم علي السواء. أ.د/محمود رابح محمود