انفجرت الأحداث الطائفية فى مصر وامتدت رقعة المواجهات بين المسلمين والأقباط، وتحولت قضية كاميليا إلى قضية قومية كبرى أهم من الأمن والكرامة والحرية، وصار ما جرى فى صول وإمبابة مجرد بدايات لأزمات أكبر قادمة ما لم نخرج من صندوق مبارك للتفكير «غير الاستراتيجى» الذى مازال يحكم البلاد. والمؤكد أن هناك صعوبات كثيرة فى مرحلة التحول الديمقراطى، خاصة أن الجيش المؤتمن عليها ليس حزباً سياسياً ولم يكن مطلوبا منه أن يلعب دورا سياسيا بل ربما مهنيته وابتعاده عن العمل السياسى مثلت عاملا رئيسيا وراء نجاح الثورة، كما أن مراحل التحول الديمقراطى فى كثير من دول العالم عرفت مشكلات وفوضى أحيانا أكبر مما نشاهده فى مصر، خاصة ما جرى فى بلدان أمريكا اللاتينية. ومع ذلك فإن تكرار هذه المشكلات لا يبرر مطلقا هذا التخبط وعدم القدرة على اتخاذ قرارات صحيحة فى التوقيت الصحيح، وصار مدهشا أن تصبح البلاد على شفا مواجهات طائفية شاملة، وفى الوقت نفسه مازالت الجلسات العرفية وقبلات الوحدة الوطنية هى المعتمدة لحل الاحتقانات الطائفية. والمؤكد أن هذه الاحتقانات ظهرت فى عصر السادات وترعرعت فى عهد مبارك وتفجرت بعد الثورة، وأن مسؤولية النظام السابق عما يجرى فى مصر الآن مؤكدة، ليس فقط بسبب فلول النظام السابق، إنما أيضا بسبب وجود تربة طائفية تركها الرئيس المخلوع تنمو وتنتشر وظل يرحّلها لسنوات طويلة بطريقته المعروفة فى ترحيل المشكلات وعلاج الجراحة بالمسكنات حتى وصلت الأمور إلى تلك المرحلة الخطرة التى نراها الآن وباتت تستلزم التدخل الجراحى. والمعضلة أن مصر تمر بمرحلة انتقالية غير قادرة على فرض الحلول الجراحية فى الوقت الحالى، فأصبح الانفجار مؤكداً حتى لو ألقى القبض على كل فلول النظام السابق التى تحرك هذه الأحداث، لأن المطلوب اتخاذ مجموعة من الإجراءات الصعبة بعضها فورى وبعضها فى المدى المنظور حتى يتسنى مواجهة أخطار «الصورة الأخيرة» أو المشهد الختامى من الصراع الطائفى فى مصر، الذى هدفه دفع قطاعات من الشعب المصرى للندم على الثورة التى تمثل القيمة الأعظم فى تاريخ مصر الحديث. والمؤكد أن الأزمة الحقيقية تكمن فى «الطائفية الشعبية» التى انتقلت من تنظيمات متعصبة إلى جماعات وتيارات متعصبة، ووضعت الجميع داخل دائرة جهنمية من التعصب والانغلاق، امتلكت آليات خاصة لتعميق الشروخ والجروح بين المواطنين، لا بناء الجسور من أجل الخروج من تلك الحالة البائسة. إن تعمق الطائفية بدأ حين فتح النظام السابق الباب على مصراعيه أمام خطاب «التدين الشكلى» والمغشوش، وهو خليط من بيزنس الدعاة الجدد وبعض رجال الدين الرسميين تواطأ معه كثير من التيارات الإسلامية حتى أصبحت مصر مليئة بالتعصب الدينى والتدين الشكلى. لقد ترك مبارك لما يقرب من ثلاثة عقود خطابا دينيا متعصبا وشكليا يهيمن على عقول كثير من البسطاء، حكمته فلسفة غير رشيدة تقول إن كل شىء مباح طالما ظل بعيدا عن العمل السياسى المنظم، فلا مانع من الأفكار الطائفية أو الظلامية أو حتى التكفيرية طالما بعيدة عن السياسة، ولا مانع من السب والقذف طالما لا يمس أهل الحكم. واعتمد النظام على الحياد والتبلد حين وجب التدخل، وتدخل بقسوة حين كان يجب الابتعاد، وأمسكت بعض الجماعات السلفية بكل ما هو شكلى ومتعصب، وردّ عليهم كثير من المسيحيين بكل ما هو متعصب ومنغلق. والمؤكد أن كثيراً من المسلمين أصروا على أن يتحدثوا عن مظاهر التعصب المسيحى، وكانوا محقين فى معظمها، ولكنهم نسوا أو تناسوا الإشارة إلى أى مسؤولية للمسلمين عن هذا التعصب الذى أصاب شركاءهم فى الوطن، وكيف أن فشل الأغلبية فى تقديم نموذج إسلامى يحترم العقل والأخلاق ويقدم رسائل طمأنة للمسيحيين، دفعهم إلى الانغلاق والعزلة والتحسس الزائد من كل هو إسلامى. مدهش أن تختفى قيادات الكنيسة الأرثوذكسية من ميدان التحرير بعد أن دعت شباب الأقباط إلى عدم المشاركة فى الثورة، ثم عادت وشاركت بقوة فى كل الاحتجاجات الطائفية التى جرت فى ماسبيرو وغيرها حتى بدت علاقتها بهذا الوطن علاقة تخص الطائفة لا أكثر ولا أقل، وهو أمر يحتاج إلى مراجعة جذرية حتى لا يتحول المسيحيون إلى جيتو منعزل يعيش من أجل الهجرة لا المشاركة فى البناء والديمقراطية. إن تكريس ثقافة الخوف من المسلمين، والقول المتكرر إن الشعب غير واع ولن تنفع معه الديمقراطية، والحسرة على العصر السابق الذى لعب بالأقباط كما لعب بكل الشعب المصرى، والرهان طوال الوقت على الحكام لا الشعب، هى ثقافة عمّقتها الكنيسة وسط كثير من الأقباط، وهى وجه آخر لنفس طريقة تفكير كثير من الجماعات السلفية التى صمتت فى عهد مبارك وانطلقت تدوى بعد سقوطه. إن مطالبة المسيحيين والكنيسة باحترام الدستور والقانون أمر بديهى، ولكن اختزال مشكلة مصر فى السيدتين كاميليا شحاتة ووفاء قسطنطين أمر غير مقبول، خاصة أن طريقة تعامل بعض التيارات السلفية مع هذه المشكلة طريقة كارثية تماما. فالموضوع يجب أن يُحل فى النيابة وأن تسمع أقوال هذه السيدة أو غيرها مرة واحدة لتعلن فيها أمام جهة تحقيق ما إذا كانت مسيحية أم لا، وليس عبر القنوات الفضائية الخاصة أو على الإنترنت. المؤكد أنه ما لم تقدم مصر بعد ثورة 25 يناير مشروعاً سياسياً مدنياً يعمل على إخراج المسيحيين مرة أخرى إلى المجال العام، وأن تتوقف هيمنة الكنيسة على شؤون الأقباط السياسية، فإن البلاد ستقدم على كوارث حقيقية. إن هناك أسباباً تتعلق بالخطاب الإسلامى السائد دفعت المسيحيين للتقوقع والعزلة، وإن الخروج من هذا المستنقع لن يكون فقط بالاعتراف بأن هناك تعصباً لدى الجانبين (وهو صحيح)، ولكن امتلاك الشجاعة بالقول إن هناك طرفاً هو الذى أحرق كنيستين فى شهرين، وإن هناك جرائم ترتكب لا يقدم فيها أحد للمحاكمة فلا تنتظروا أن ينتقل هؤلاء من حرق الكنائس إلى حرق الوطن. [email protected]