نصيحة «ستيف جوبز»: استفتِ قلبَك!

«الجامعات ليست مخزناً للمعلومات والحقائق فحسب، ولكنها مكانٌ نتعلم فيه كيف نُقيِّم ونختبر وننتقد هذه الحقائق ونصقلها».
مقالات متعلقة
* هل انتهى زمن «التوك شو»؟
* استمرار الفضائح الكروية
هذا هو جوهر خطاب رئيسة جامعة هارفارد، فى حفل التخرج السنوى، الذى عُقد الأسبوع الماضى. خطابها- كما تابعته على «يوتيوب»- كان عن المعرفة والقيم. قالت إن مكتبة الجامعة التى تحفظ 17 مليون كتاب تمثل حصيلة الخبرات والحقائق والعقائد البشرية. هذه الخبرات هى وسيلة لاكتشاف الطريق إلى الحقيقة. أضافت أنه يتعين اتباع هذا الطريق أنّى قادنا. فالحقيقة «لا يمكن ادعاء امتلاكها، وإنما ينبغى إثباتها بالدليل والحجة. الأفكار تزدهر عندما تكون عرضة للنقد، مهما كانت هذه العملية غير مريحة». تحدثت رئيسة الجامعة عن الالتزام الأخلاقى. قالت إنه لا علم بلا قيم، وإنهم فى هارفارد يدفعون طلابهم دفعاً لكى يكونوا أفراداً لديهم شخصية: «غايتنا الأسمى ليست المعرفة، وإنما الحكمة والمسؤولية وإعمال العقل».
حفلات التخرج تقليد متبع فى الكثير من الجامعات الكُبرى. يجرى دعوة النابهين ممن حققوا إنجازاً مُعتبراً، من أبناء الجامعة أو خارجها، لكى يُلقوا كلمة على مسامع شباب يستقبلون حياتهم العملية. غالباً ما تعكس الكلمات عُصارة حكمة الناجحين. تُلخص الوصفات المُجربة لتلمّس الطريق إلى التحقق والازدهار. هذا العام مثلاً كان المخرج الأمريكى الشهير«ستيفن سبيلبرج» هو المتحدث الرئيس فى حفل تخرج هارفارد. بدأ كلمته بالإشارة إلى أنه انتظر 37 عاماً لكى ينهى دراسته الجامعية. قال إنه عاد إلى صفوف الجامعة منذ 14 عاماً فقط بعد أن تركها شاباً واتجه إلى مجال السينما. ما دفعه للعودة للدراسة كان الحاجة لتقديم القدوة لأبنائه السبعة وإقناعهم بأهمية التعليم الجامعى!.
«سبيلبرج» قال إنه كان محظوظاً لأنه عرف ما يريد فعله وهو فى الثامنة عشرة من عمره. شكر أباه لأنه أعطاه أول كاميرا فى حياته وعمره 12 عاماً. قال المخرج الكبير إن الأمور لا تكون دائماً بهذه السهولة. الكثير منا لا يعرف فى مطلع الشباب ما يُريد أن يفعل بحياته. حتى سن الخامسة والعشرين يلعب الآخرون الدور الأكبر فى تشكيل توجهاتنا. نسمع الكثير من الأصوات حولنا، فيستعصى علينا تمييز الصوت القادم من داخل عقولنا. الحدس هو ما يُهم، كما يقول «سبيلبرج». الحدس صوتٌ يختلف عن الضمير. الضمير يُخبرنا بما يجب أن نفعل. الحدس يهمس لنا بما فى مقدورنا فعله. نصيحة سبيلبرج للشباب هى أن يلتفتوا لهذا الصوت القادم من داخلهم.
لاحظتُ أن هذه النصيحة بالذات تكررت كثيراً فى خُطب التخرج الأشهر. يظل خطاب «ستيف جوبز»، مؤسس «آبل»، هو الأجمل من بين ما سمعت. الخطاب ألقاه العبقرى الراحل فى حفل تخرج دفعة جامعة ستانفورد فى 2005. روى فيه قصته مع الدراسة. قصة مُدهشة ومثيرة للتأمل. بعد ستة أشهر من التحاقه بالجامعة شعر «جوبز» بأنه لا يستفيد شيئاً. لم يكن يعرف ما يُريد فعله بحياته، ولم ير أن الجامعة تُساعده فى تلمس طريقه الخاص. لم يُرد أن يضيع مُدخرات والديه (بالتبنى). برغم تركه للدراسة، إلا أنه صمم على حضور الدروس مُستمعاً لعام ونصف. كان ينام على الأرض فى غُرف الأصدقاء، فلم يكن لديه سكنٌ جامعى. يقول: «ما تعلمته فى هذه الفترة، مُتبعاً فضولى وحدسى، ظهر لاحقاً أنه لا يُقدر بثمن». هو بُهر بفنون الخط، ودرس حصصاً فيها. بعد ذلك بعشر سنوات وعندما كان على وشك إطلاق كمبيوتر «ماكنتوش» الشهير استعاد هذه الخبرة النادرة العجيبة لكى يُضيف خاصية الخط إلى برنامج «ماكنتوش». يقول «جوبز» إنه كان من الصعب أن يتبين ذلك المسار المُتعرج وهو يتلقى حصص الخط فى الجامعة. نصيحته للشباب هى أن يؤمنوا بأن مغزى ما يفعلونه سيتضح يوماً ما. عليهم أن يستفتوا قلوبهم ويتبعوا نداءها!.
خطاب «جوبز» كان مُلهماً بحق. هو روى قصة طرده من شركة «آبل» وحاجته للبدء من جديد فى سن الثلاثين. شىء واحد ساعده على تحمل الصعاب وألهمه مواصلة المسيرة: حبه لما يعمل. معادلة «جوبز» جد بسيطة. العمل يأخذ حيزاً كبيراً من حياتنا. الحل الوحيد لكى يشعر المرء بالإشباع هو أن يُحب حقاً ما يعمل. يقول: «إن لم تكن قد وجدت بعد ما تُحب عمله حقاً، استمر فى البحث. لا ترض بالذى هو أدنى. وككل الأشياء المتصلة بالقلب فستعرف ما تحب فقط عندما تصل إليه!». يُضيف جوبز: «الحياة قصيرة ووقتك على الأرض محدود. لا تعش حياة شخص آخر. لا تجعل أصوات الآخرين تشوش على صوتك الداخلى. اتبع قلبك وحدسك فهما يعرفان ما تُريد».
والحال أن هذه الكلمات لا تعكس عصارة الحكمة فحسب، بل هى تُذكرنا بالمعنى الأهم للتعليم. التعليم هو عملية تجهيز للشخصية. صقلها وإعدادها وتدريبها على تلمُس طريقها الذاتى. على التصرف فى مواقف صعبة تفرضها الحياة فى كل موقع. هذا، فى واقع الأمر، هو ما يُميز المؤسسات التعليمية العتيدة مثل هارفارد عن غيرها. لهذا لم يكن غريباً أن يقول الكاتب الشهير «فريد زكريا»- فى حفل تخرُج دفعة 2012 بهارفارد- إن «أمريكا تظل الحاضنة لأهم جامعات العالم. الصين والهند لن يكون لديهما هارفارد فى العقود القادمة، وربما إلى الأبد!»
توقفتُ كثيراً عندما قرأتُ مرةً ما كتبه «شيشرون»- الفيلسوف ورجل الدولة الرومانى الأشهر- من أن الغاية الأولى للتعليم هى تدريب الطالب على «الاعتناء بالذات». ليس المعارف، ولا المهارات أو الحِرَف. فقط «الاعتناء بالذات». لو رُبى المرء فى شبابه الباكر على كيفية شحذ قواه العقلية وتربية إرادته الذاتية، ففى مقدوره أن يتعلم أى شىء. إن لم تُغرس فى ضميره هذه القيم، فلن تنفعه المعارف فى قليل أو كثير.
صفوة القول: التعليم غرضه تكوين وبناء الوجدان لا حفظ وترديد الكلام!.
gamalx@yahoo.com
اشترك الآن لتصلك أهم الأخبار لحظة بلحظة