ما أبهجه الحصاد وخاصة لمن زرع واجتهد وفلح. هكذا قرأنا وسمعنا وتعلمنا وكتبنا وتأملنا وتألمنا وفرحنا وهللنا كلما التقينا وشاهدنا أمامنا البذرة والتربة والفلاح. وعايشنا من خلالهم الأمل والجهد والدأب والمثابرة والفرحة بالحصاد وبالمحصول. وبالطبع ما أبلغه من توصيف لعام دراسي بأكمله ولملايين من الطلبة يتخرجون من جامعاتهم على امتداد العالم بأنه الحصاد وموسمه. وبالتأكيد جميل ومبهج أن يسيطر علينا الشعور بالاعتزاز والفخر خلال هذا الموسم المثمر لأن ما تم غرسه وريه والاعتناء به على مدى سنوات عديدة أتى بثماره ،وجاءت تلك اللحظة المبهرة والمبهجة المسماة «الحصاد». ونعم، على الرغم من وصولنا الى عام 2014 والقرن الحادي والعشرين الا أننا مازلنا كما يبدو نعتز ونفتخر وأيضا نبتهج بما كان يعد ويعتبر نجاحا وانجازا في عهود الزراعة والفلاحة من التاريخ الانساني.. اذ مازال يفرحنا الحصاد وثماره! وقد جرت العادة في الجامعات الأمريكية أن تدعو كل عام الى حفل التخرج بها شخصية ما غالبا مشهورة أو مرموقة لتتحدث الى الخريجين والخريجات. وبالتأكيد الكلمة التي عادة لا تكون طويلة ولا مملة تحتوى على احتفاء بالنجاح ومداعبة الحلم ومواجهة للواقع وأيضا تلجأ للنصيحة لعل وعسى تنفع في هذا الزمن أيضا مثلما نفعت من قبل. أما الأمر الأكثر اثارة وتشويقا في رأيي أن وسائل الاعلام المرئية والمسموعة والمطبوعة على السواء في الولاياتالمتحدة لا تدع تفوتها هذه الفرصة الذهبية للتأمل ولكسب المعرفة وبالتالي تقوم وسائل الاعلام كل عام بمتابعة ما يقوله أصحاب الكلمة المشاهير وما ينصح به الحكماء وما يتأمله المبدعون خلال حفلات التخرج وتجعل من هذه التجربة الانسانية مادة متاحة للمشاطرة والمشاركة مع كل من تتوق نفسه الى المعرفة ويسعى عقله في طلب الحكمة. وطالما أتحدث عن ظاهرة تتكرر كل عام وحصاد تحتفي به الجامعات الأمريكية خلال شهري مايو ويونيو من كل عام، يجب الإشارة هنا الى بعض ما تم وما قيل هذا العام. فالرئيس الأمريكي باراك أوباما منذ أكثر من أسبوع كان فى حفل تخرج لأكاديمية «ويست بوينت» العسكرية الأمريكية في ولاية نيويورك وكان يتحدث عن رؤيته لدور أمريكا في العالم الآن وبالتالي المنتظر منها في التعامل مع أو التصدي للأزمات المتلاحقة التي تشهدها البشرية شرقا وغربا. واذا أخذنا في الاعتبار المناسبة والمكان فالحديث لم يكن خطابا سياسيا بقدر ما كان حديثا عن فكر استراتيجي وعقيدة سياسية عسكرية تشكل القرار وخطط التعامل مع دول العالم.أما زوجته ميشيل لأنها تحمل راية «الأكل الصحي» و»عدم الافراط في تناول المأكولات» فان في كلمتها في حفل تخرج جامعة ديلارد بنيو أورلينز لجأت لنفس اللغة وحثت الخريجين على الابقاء على جوعهم وتعطشهم للتعليم والمعرفة. وبالطب لم تفوت ميشيل فرصة كهذه للحديث عن المرأة والفتاة في أمريكا وفي غيرها من الدول وقضاياها الشائكة في التعليم والمشاركة في المجتمع وأيضا ضرورة حمايتها وحماية جسدها من الانتهاكات المتكررة. ويجب التنبيه هنا بأن المتكلم في حفل التخرج مهما كان منصبه أو مركزه يخاطب الأجيال الصاعدة بأسلوب «دردشة» و«فضفضة» ويلجأ غالبا الى «الحكي المسلي» وأحيانا الى «الأسلوب الساخر»، وفي كل الأحوال «بتناول شيق يدفع بالخريج الى التحليق نحو آفاق بعيدة». وكانت بهجة حفل التخرج مختلفة في كلية الهندسة بجامعة كونيتيكت اذ كان المتحدث فيه ريك ماستراتشيو خريج الكلية السابق (عام 1982) وهو يعمل حاليا رائد فضاء وكان موجودا يوم التخرج في مركبة فضائية بالفضاء الخارجي وبالتالي تواصل مع أكثر من 400 من الخريجين وتحدث معهم «من بعيد» عن المثابرة وضرورة أخذ خطوات صغيرة على الطريق الطويل الذي يبغي الشاب وتتمنى الشابة أن تقطعه.. لأن هكذا تتحقق الأحلام! هذا العام أيضا تعالت احتجاجات مكثفة اعترضت على دعوة كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية السابقة للحضور والتكلم في حفل تخرج جامعة راتجرز بنيو جيرسي على أساس»أنها مجرمة حرب.. شاركت في تدمير العراق». وبما أن الحملة اشتدت فضلت رايس الانسحاب من جانبها. حملة مشابهة تعرضت لها كريستين لاجارد مديرة صندوق النقد بسبب سمعة الصندوق و«دوره السلبي» في التعامل مع قضايا البشرية حسب رأي المعترضين. ودون الدخول في تفاصيل الاعتراض وما تم تبادله من آراء خلال المواجهة الشرسة في كلتا الحالتين يتكشف لنا كيف أن الكثيرين من المتعلمين ودارسي الجامعات وربما أكثر من أي وقت مضى أصبحوا لا يطيقون الرأي المختلف .. والأخطر يريدون إسكاته والقضاء عليه! ويذكر في أمر خطب التخرج أيضا وجود انتقادات شديدة اللهجة للجامعات لأنها تخصص عشرات الآلاف من الدولارات من أجل احضار هذه الشخصية المرموقة أو ذاك الاسم البارز. وقد كان المبلغ المخصص لحضور رايس 35 ألف دولار اضافة الى منحها الدكتوراة الفخرية. وستظل كلمة ستيف جوبز عام 2005 في حفل تخرج جامعة ستانفورد «حدثا لا يمكن نسيانه». فمخترع ومصمم الكمبيوتر «آبل» واخواته من «أي بود» و«آي فون» ثم «أي باد» فتح قلبه في كلمته الرائعة وحكاياته المبهرة وهو يتحدث عن الحب والأمل في حياته و«أن الشئ الوحيد الذي جعلني أستمر هو أنني أحببت ما فعلته» . كما حكى جوبز عن ضرورة أن تحلم وتسعى لتحقيق أحلامك وأن تجد في كل انتكاسة وفشل درسا يساعدك على تجاوز المحنة وبالتالي تطرق لمرضه واقترابه من الموت وعلاقته مع الحياة و»محدودية الوقت» و»لا تدع ضجيج آراء الآخرين يطغى على صوتك الداخلي» وأيضا طالب ستيف جوبز الحضور بالحفاظ على جنونه في اقباله على الحياة. ولم يعد بالأمر الغريب أن صارت هذه الكلمة «مزارا يرتاده الملايين» من خلال اليوتيوب.وقد تم مشاهدتها حتى الآن نحو 20 مليون مرة! وبما أن حصاد هذه الكلمات في حفلات التخرج على مدى سنوات عديدة يعد كنزا لا يمكن تقدير ثمنه أو قيمته خاصة أن بما هذه الكلمات تجسد التجربة الانسانية وثراء التحاور بين الأجيال وأهمية تبادل الحكمة عبر الثقافات فقد حرصت جهات عديدة اعلامية وأكاديمية أمريكية في السنوات الأخيرة على حصر وتسجيل وتبويب هذا المخزون الفكري الانساني ومن ثم التنقيب في مضمونه من أجل الحصول على الغالي والنفيس. من خلال تنقيبنا في هذه المناجم نجد أن «الاستماع دائما الى الصوت الكامن بداخلك « هو النصيحة الغالية كما أن «الحفاظ على الحلم والجنون» هو التنبيه الدائم أو التحريض المستمر. ..................... وهذه» السرحة» عبر معاني الحياة ودروسها تأخذنا (كما يقال) الى حبايبنا وأهلنا ومن شكلوا حياتنا وأعطوا لنا أجنحة لكي نطير بها. ترى ماذا كان سيقول صلاح جاهين أو فؤاد حداد أو نجيب محفوظ أو جبران خليل جبران أو محمود درويش أو يوسف شاهين لو حضر أي أحد منهم حفلا للتخرج هذا العام؟. هل كانت ستتكرر على مسامعنا روعة وعظمة «رباعيات جاهين» وعجبي أو حكمة حداد القائلة ب «قولوا للأحلام ما تقلقش» أو كنا سنسمع محفوظ يحكي أصوات و«أصداء السيرة الذاتية» ويطلق من حين لآخر «ضحكته المجلجلة» .وماذا كان سيقول نبي جبران لنا ب»أرواحه المتمردة» و»أجنحته المتكسرة».. ثم كيف كان سيحكي درويش عشقه وتجربته وفلسفته من خلال قصيدة «لاعب النرد» وأخيرا ترى ماذا كان سيقول يوسف شاهين لو كان المتحدث في حفل تخرج جامعة الاسكندرية لعام 2014؟! الكاتب المفكر سلامة موسى في مقدمة كتابه «هؤلاء علموني» يقول: «ان كل انسان كون نفسه، ولذلك له الحق في أن يسأل في استقلال، وأن يجيب في استقلال، عما يحس وعما يجد، وهؤلاء المؤلفون (وهو يتحدث عن فولتير ونيتشه وتولستوي وغيرهم) الذين تخصصوا في الرؤية والشهادة جديرون بأن نقرأهم. ولكن يجب أن نحذرهم. وهيهات أن نحذرهم! ذلك لأن لكل كاتب ايحاءاته التي لا طاقة لنا بالتخلص منها. وأحيانا له ايعازاته التي تندس الى عقولنا من حيث لا ندري. ولكن علينا في كل حال أن ننشد الاستقلال. ولقد تأثرت بهؤلاء الكتاب الذين ذكرتهم في هذا الكتاب، وأحببتهم، وأعظمتهم، ووجدت فيهم النور والتوجيه. ولكني حاولت الاستقلال. وهذا ما أنصح به القارئ الذي يجب أن ينصت الى قول أمير الأدب جيته يقول: كن رجلا ولا تتبع خطواتي» أما يوسف ادريس صاحب التدفق الابداعي والاندفاع الفكري والجموح الشعوري معا كتب بعد أن أجريت له عملية فتح القلب وفي «وقفة مع النفس»: «لقد اكتشفت أن الحياة كلها هي في ملخصها لحظة قرار شجاع.. ومن يهرب منها ومن يؤجلها ومن يؤثر السلامة أي اشاحة النظر عنها هو الذي يموت. أو هو الميت وان ظل يحتسب في عداد الأحياء .. حيا..» وفي موضع آخر يذكر:» أننا لكي نكون بني آدمين بحق وحقيقي يجب أن نحيا، وأن نحيا معناه أن نفعل، وأن نفعل معناه أن نريد، وأن نريد معناه أن نختار، وأن نختار معناه أن نقرر، ولا بد وحتما سيكون في القرار أي قرار قدر من المخاطرة، ولكن تجنب القرارات خوفا من المخاطرة سيؤدي بنا الى تجنب الحياة كلها. تجنب روح الحياة وقلبها ونبضها والاحساس الحقيقي بها» ..................... ألا يدفعنا كل ما قرأناه وما كتبناه حتى الآن للقول علنا في موسم الحصاد هذا: مهما كان يجب أن تبقى حيا وتستمر حالما وتظل مثابرا.. وكن ما تشاء وما تريد وما تختار.. وبالتأكيد لست في حاجة أن تتبع خطواتي!!