شاهدت فيلم «جوبز»، وبرغم أنه لم يعجبنى سينمائياً فإنه أثار من جديد قضية كيف يتعامل المجتمع الأمريكى مع عبقرى غريب الأطوار مثل ستيف جوبز وكيف ينتجه ويصنعه وكيف يؤثر هذا الشخص العبقرى فيه بل فى العالم كله، أما لماذا لم يعجبنى كفيلم سينمائى برغم الملايين التى تكلفها الفيلم والإمكانيات الهائلة والأداء الرائع للنجوم خاصة النجم أشتون كيتشر الذى اقترب من جوبز فى الروح والملامح وحتى طريقة المشى، إلا أنه كان أقل من سقف التوقعات حول هذه الشخصية الثرية المدهشة التى كان لها أبعاد وجوانب غفل عنها الفيلم مما قلل من قيمته، ولذلك شعرت بأننى أمام فيلم يتحدث عن سقوط وصعود شركة «أبل» أكثر مما يتحدث عن ستيف جوبز نفسه!، ستيف جوبز ليس مجرد بيزنس مان أو تاجر شاطر أو مهندس عبقرى أو منافس شرس، ولكنه فيلسوف وصاحب فكر بكر ناصع قوى وعبارة رشيقة نافذة مختزلة لكل حكمة الدنيا فى كبسولة، الفيلم لم يتعمق فى «جوبز» الإنسان الذى ترك كليته ولم يكمل دراساته العليا وفضل التحرر من القيود -كل القيود- لدرجة أنه فى شبابه كان يفضل السير حافياً فى الحدائق والشوارع!، لم يتطرق إلى قرار اعتناقه البوذية وملابساته، كيف قاوم أشرس سرطان فى الدنيا وهو سرطان البنكرياس، الذى كان يعرف ميعاد خسارته للجولة معه واقتراب ميعاد توقف عقارب ساعته البيولوجية بسببه، ولكنه ظل يبدع ويحلم، إننا فى الفيلم أمام بيزنس مان أنشأ شركة جبارة ثم طرده المساهمون منها عندما أنفق بإسراف على مشروعه «ماكنتوش» وهم كانوا يفضلون مشروعهم، ثم استعاد شركته منهم بعد خسارتهم ونزيفهم المالى، ليست هذه إطلاقاً قصة ستيف جوبز، قصته هى قصة حلم، قصة ثقة فى العبقرية وفى الجنون وفى الخروج على النص وفى الطفل المشاغب الفضولى الزنان الشقى الذى هو بثقافتنا المصرية «بيتدخل فى اللى مالوش فيه ومابيذاكرش من كتاب الوزارة!». «ابق جائعاً.. ابق أحمق»!!.. تلك الكلمات التى ختم بها «جوبز» خطابه أمام طلبة جامعة «ستانفورد» الأمريكية، ليست مجرد أربع كلمات باردة، لكنها تلخيص قصة حياة وحكاية نجاح، الجوع إلى المعرفة الطازجة والتجربة البكر، الجوع إلى كل ما هو جديد ومدهش، والحماقة التى يقصدها هى أن تخالف توقعات المتجمدين المحنطين التقليديين الخائفين من التغيير، المذعورين من التجديد، وأن تعيش نفسك وتفعل ما يمليه عليك قلبك، لا ما يمليه عليك الآخرون الذين يريدونك فى قالبهم وبروازهم ونمطيتهم، فتعيش حياتك تمثل دوراً وترتدى قناعاً وكأنك فى حفلة تنكرية لا فى تجربة حياة حقيقية من لحم ودم!، «لا تسأل العميل ماذا تريد بل بماذا تحلم؟».. هذه هى العبارة التى دائماً يرددها «ستيف جوبز» لموظفى شركاته، وهذا هو السر الذى جعله متجدداً على الدوام، مصاباً بمرض الحلم المزمن والخيال المحلق. ورغم سرطان البنكرياس الذى غرس أنيابه فى الجسد فإنه لم يمس الروح، ورغم الكبد المزروعة فى بطنه، والمزروعة إلى جانبها الثقة فى المستقبل والحلم بالغد الأفضل، يقول ستيف جوبز «وقتك محدود، فلا تضيعه فى أن تعيش حياة شخص آخر، لا تقع فى فخ العيش وفق ما توصل إليه فِكر الآخرين، لا تدع الضوضاء التى تحدثها آراء الآخرين تعلو فوق صوتك الداخلى»، «كونى أغنى رجل فى المقبرة لا يهمنى، ما يهمنى حقاً هو أن أذهب لأنام فى سريرى وأنا أقول لنفسى لقد فعلت شيئاً رائعاً فى يومى هذا».. هكذا قال ستيف جوبز عن طبيعة أحلامه، وقال أيضاً «سيشغل عملك جزءاً كبيراً من حياتك، والسبيل الوحيد لكى تكون راضياً فى حياتك حقاً هو أن تفعل ما تراه عملاً عظيماً، والسبيل الوحيد للعمل العظيم هو أن تحب ما تعمله، الحب هو أن تكون نفسك وأن تعرف قدراتك وتجعلها بلا حدود»، فى نهاية خطبته المبهرة بستانفورد تحدث «ستيف» عن الموت الذى واجهه عند مرضه، فقال: «حين كنت فى السابعة عشرة من عمرى، قرأت عبارة (إذا عشت كل يوم كما لو كان آخر يوم فى حياتك، فسيأتى يوم تكون فيه على حق)، ومن وقتها وأنا أنظر إلى نفسى فى المرآة كل يوم وأسألها: لو كان اليوم آخر يوم فى عمرى، هل كنت لأود أن أفعل ما أنوى فعله فى يومى هذا؟، وإذا كانت إجابتى هى (لا) على مر عدة أيام، ساعتها كنت أدرك حاجتى لتغيير شىء ما، كانت تلك هى الأداة الأكثر أهمية لتساعدنى على اتخاذ القرارات الكبيرة فى حياتى، لأنه تقريباً يخفت كل شىء فى مواجهة الموت، التوقعات، والكبرياء، والخوف من الحرج والفشل، تاركة الأشياء المهمة حقاً لتظهر جلية، أن تداوم على تذكير نفسك بأنك ستموت لهو أفضل سبيل لأن تتفادى الوقوع فى فخ الظن بأن لديك شيئاً لتخسره فتخاف عليه، الموت هو النهاية التى نشترك كلنا فيها، لن تجد مفراً من هذه الخاتمة، الموت هو ربما أفضل اختراع للحياة».