الأطباء: نتابع واقعة عيادة قوص ونناشد تحري الدقة في تناول المعلومات    السيسي يصدَّق على قانونين بشأن مجلسي النواب والشيوخ    سعر اليورو اليوم الثلاثاء 10 يونيو 2025 في البنوك المصرية مع تسجيل فروق طفيفة للشراء والبيع    أسعار الفاكهة اليوم الثلاثاء 10-6-2025 في الدقهلية    انطلاق مرحلة جديدة من الموجة ال26 لإزالة التعديات على الأراضى الزراعية    «التخطيط»: 20.4 مليار جنيه استثمارات 206 مشروعًا بمحافظة مطروح خلال 2024-2025    كاليفورنيا في مواجهة ترامب بعد نشر الحرس الوطني    استشهاد 55 فلسطينيًا خلال غارات للاحتلال الإسرائيلي على غزة منذ فجر اليوم    الكرملين: لا تفاهم نهائيًا بشأن موعد نقل جثث الجنود الأوكرانيين إلى كييف    الرئيس اللبناني يصل الأردن لعقد لقاء قمة مع الملك عبد الله    اليوم.. الأهلي يشارك في مؤتمر لمناقشة رؤية فيفا لكأس العالم للأندية    موعد مباراة فلسطين وعمان في تصفيات كأس العالم 2026 والقنوات الناقلة    محمد السيد: لست متمرداً.. والزمالك بيتي    وزير التعليم: الحزم مع المخالفين لا يتعارض مع دعم الطلاب نفسيًا    انتشال جثة سيدة من غرقى تروسيكل سقط في نهر النيل بأسيوط    وزارة السياحة والآثار:استمرار انطلاق رحلات عودة حجاج السياحة المصريين لعام 1446ه إلى أرض الوطن من مطار جدة    الأرصاد: ارتفاع درجات الحرارة على أغلب مناطق الجمهورية حتى منتصف الأسبوع المقبل    ضبط 200 مخالفة مرورية خلال 24 ساعة في القاهرة    عن طريق الخطأ.. ضبط المتهم بإصابة طفلين فى حفل زفاف نجله بقنا    اليوم.. «أيام إخناتون» و«شلباية» يفتتحان عروض مسرح إقليم جنوب الصعيد الثقافي    بعد انضمام المشروع X.. ترتيب جديد لقائمة الأفلام الأعلى إيرادا في تاريخ السينما المصرية    «عروسة مميزة جدا».. أسماء جلال ترافق أمينة خليل في حفل زفافها الثاني باليونان    «مش بتتنازل بسهولة».. 4 أبراج عنيدة يصعب إقناعهم    الدفاع المدنى فى قطاع غزة: الاحتلال يستهدف المدنيين بمناطق توزيع المساعدات    المأذونين عبر تليفزيون اليوم السابع: زواج شاب "داون" من فتاة يجوز شرعاً    عاجل - الحكومة تسعى لتحقيق «صفر» حالات جذام في مصر "التفاصيل كاملة"    أشرف عقبة يوضح أهم أعراض الإصابة بمتحور كورونا الجديد "نيمبوس" (فيديو)    الصحة: استحداث عدد من الخدمات الطبية النوعية بمستشفيات التأمين خلال العقد الأخير    شيكابالا لإدارة الزمالك: لن أعتزل والفريق سيعانى فى غيابى (فيديو)    الدبيس: أتمنى المشاركة أساسيا مع الأهلي في كأس العالم للأندية    مباريات اليوم.. ختام المرحلة الثالثة بتصفيات آسيا للمونديال    وزيرة إسبانية تدين اختطاف السفينة مادلين : يتطلب رد أوروبى حازم    كندا تتعهد برفع الإنفاق الدفاعي إلى 2% من الناتج المحلي استجابة لضغوط "الناتو"    وزير الري يشيد بجهود العاملين خلال عطلة عيد الأضحى    في أولي حفلاته بعد الحج.. أحمد سعد يوجه رسالة لجمهوره| صور    10 يوليو.. بتر شو Better Show يعود بعرض "السنجة" على مسرح نهاد صليحة    فتح باب التقديم لوظيفة مدير عام المجازر والصحة العامة بمديرية الطب البيطري بالغربية (الشروط)    حِجر إسماعيل..نصف دائرة في الحرم تسكنها بركة النبوة وذاكرة السماء    ارتفاع الأسهم العالمية والدولار مع تقدم المحادثات التجارية بين أمريكا والصين    وزير المالية يوجه بتسهيل الإجراءات الجمركية لضيوف الرحمن    «الأمن الاقتصادي»: ضبط 2200 قضية «سرقة كهرباء وظواهر سلبية» خلال 24 ساعة    محافظ أسيوط يشهد انطلاق تقنية طبية جديدة بوحدة المناظير بمستشفى المبرة    حكم توزيع لحوم الأضاحي بعد العيد وأيام التشريق؟.. أمين الفتوى يوضح    فنان العرب محمد عبده والمايسترو هاني فرحات يحطمان الأرقام القياسية في حفلات عيد الأضحي 2025    أسعار اللحوم البلدي والكندوز اليوم الثلاثاء 10-6-2025 في الأسواق ومحال الجزارة بقنا    إمام عاشور: الأهلي قادر على الفوز بمونديال الأندية    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 10-6-2025 في محافظة قنا    اقتحام المنازل وتعطيل الدراسة.. ماذا يحدث في مدينة نابلس؟    تحذير عاجل من عبوات "باراسيتامول" بالأسواق، وهيئة الأدوية البريطانية: فيها تلوث قاتل    استقرار سعر الذهب اليوم وعيار 21 يسجل 4675 جنيها    يوميات أسبوع نكسة 1967 في حياة طبيب شاب    وفد من أمانة حزب مستقبل وطن بالدقهلية يقدم العزاء لأسرة البطل خالد شوقي عبدالعال    القبض على صاحب مطعم شهير بالمنيا بعد تسمم أكثر من 40 شخصًا    خاص| الدبيكي: نعمل على صياغة اتفاقية دولية لحماية العاملين من المخاطر البيولوجية    صحة سوهاج: 560 جلسة علاج طبيعي لمرضى الغسيل الكلوي خلال أيام عيد الأضحى    ما حكم الشرع في بيع لحوم الأضاحي.. دار الإفتاء توضح    ترامب: إيران تلح على السماح لها بتخصيب اليورانيوم    "خسارة للأهلي".. نتائج مباريات الإثنين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الآفاق المصيرية للثورة المصرية (6/7) .. عقلٌ جديد لعالمٍ جديد
نشر في المصري اليوم يوم 30 - 03 - 2011

هل نحتاج، نحن المصريين المعاصرين، نظاماً جديداً للإدراك والتفكير، ليكون متوافقاً مع الآفاق المستقبلية التى كشفت عنها ثورتنا؟ بعبارة أخرى: هل يلزمنا عقلٌ جديد، لعالم جديد، بدأت آفاقه تلوح فى المدى المستقبلى المصرى والعربى؟
إن عنوان هذه المقالة، وسؤالها الأساسى، مأخوذٌ بنصِّه من العنوان العربى لكتابٍ إنجليزى، قام د. أحمد مستجير (رحمه الله) بترجمته إلى العربية، وقمتُ بنشره ضمن سلسلة كتب كان عنوانها «الفلسفة والعلم» تولَّت إصدارها هيئة قصور الثقافة، التابعة لوزارة الثقافة المصرية، وهى السلسلة التى أنشأتُها وأشرفتُ عليها، متطوِّعاً (بدون مقابل مالى) فى منتصف التسعينيات من القرن الماضى، ونشرتُ من خلالها عدة كتب، كان منها: فلسفة الرياضيات، إشكالية المنهج فى العلوم الإنسانية، إشكالية المصطلح، حَىّ بن يقظان.. ثم اكتشفت هيئة «قصور» الثقافة، أن الفلسفة والعلم لا يدخلان فى نطاق اهتمامها، ولا يقعان ضمن أولويات وزارة الثقافة. لأن جمهور الناس فى مصر، فيما زعموا، لا يهتمون بالفلسفة ولا بالعلم (مع أن هذه الكتب كانت تنفد فور صدورها) وتوقفت السلسلة عن الصدور، وفقاً لهذا المنطق العجيب المعكوس، القائل بالعامية: الجمهور عاوز غير كده.
والكتاب الذى نُشر تحت عنوان مقالة اليوم، وضعه اثنان من المؤلفين الأمريكيين هما: روبرت أورنشتاين وبول أورليش. وفيه يطرحان فكرةً لطيفة، ملخصها أن الإنسان المعاصر يواجه أزمةً لا يشعر بها، مع أنها بالغة الخطورة. فقد ظل (عقل) الإنسان، لمئات الآلاف من السنين، يعتمد على المعطيات التى تقدِّمها له الحواس الخمس، المباشرة، التى تقوم بتحذيره من «الأخطار» التى تواجهه وتهدِّد بقاءه، فى تلك الأزمنة السحيقة التى كان البشر يعيشون أثناءها فى الكهوف، وفوق الأشجار، فى صراع مرير من أجل البقاء.. (إشارة: يعيش البشر على الأرض، منذ قرابة مليون سنة).
ولا يزال معظم الناس، حسبما يقول المؤلِّفان، يفكرون فى الأمور ويعقلون ما حولهم وفقاً لطريقة الإنسان البدائى، وهو ما لا يتناسب مع الطبيعة المعدة للحياة فى الزمن المعاصر. ولذلك، تراهم يتصرَّفون، ويستجيبون، بشكل (غير ملائم) للأحداث المحيطة بهم. فنجدهم مثلاً ينزعجون كثيراً، ويتابعون بشغف، أخبار اختطاف (الإرهابيين) لمجموعة من المواطنين، وقد يبقون شهوراً حريصين على التقاط أخبارهم من وسائل الإعلام. بينما لا نراهم يتوقفون فى غمرة اهتمامهم هذا، عند إحصائيات تقول إن عدد القتلى فى حوادث الطرق السريعة، بلغ فى هذا العام عدة آلاف! وهكذا ينصرف (العقل البدائى) إلى الاهتمام بمصير عدة أفراد، قد ينجون أو يُقتلون، بأكثر من اهتمامه بآلافٍ من الأفراد قُتلوا بالفعل.
وقد تذكرتُ هذا الأمر، قبل عامين، عندما دُعيتُ لاستعراض (الصحف) فى فقرة قراءة الجرائد ببرنامج تليفزيونى شهير، فلحظتُ يومها أن أربع عشرة صفحة من الجرائد التى كانت ليلتها بين يدىَّ، تتحدث عن واقعة مقتل المرأة اللبنانية، جميلة الصورة، بتحريض من المقاول الشهير «هشام طلعت مصطفى» بينما رأيتُ ليلتها فى جريدة الأهرام، على الصفحة الأولى، خبراً لا تزيد مساحته على عقلة إصبع، يقول إن أمريكا أعطت إسرائيل مائة صاروخ بعيد المدى (إشارة: بعيد المدى، أى بإمكانه إصابة السد العالى، مثلاً) ومع ذلك، لم يهتم الناس بالخبر الصغير، ولم تتابعه وسائل الإعلام بعدها، نظراً للانشغال العام بقضية مقتل (سوزان تميم) فى مدينة دبى. وكأن هذا الموضوع أخطر شأناً، وأعظم تأثيراً فى المصريين، من خبر الصواريخ.
■ ■ ■
ولأننا اليوم «على أعتاب مرحلة جديدة» حسبما نسمع كثيراً، من المتكلمين الكثيرين الذين يتصدَّرون يومياً وسائل الإعلام الكثيرة، ولا يكفون لحظةً عن الكلام والكتابة والإفتاء بعلمٍ وبغير علم.. (إشارة: قد يكون إفتاؤهم مشتقاً من كلمة «فُتيا» أو من كلمة «فتَّة» وهما كلمتان لا يرى البعض بينهما فرقاً كبيراً).
ولأننا تأكدنا مؤخراً من (سقوط) النظام السابق بكل عوالمه الفاسدة، وصرنا نطالب بملاحقة بقاياه، وفلوله (إشارة: الاستعمال الإعلامى الكثيف لكلمة «فلول» غير صحيح فى اللغة، لأن الفلول هم «المنهزمون» وهؤلاء الذين يُطالب المصريون بمحاسبتهم، لم يعلنوا انهزامهم بعد).
ولأننا بشكل عمومى، صرنا نأمل فى إحداث طفرة حضارية، حقيقية، لهذا البلد الهادر العظيم. بعد سنين طوال من التعثر وتبديد الطاقة فيما لا طائل تحته، إلا خدمة العروش والجيوش، وهو الأمر الذى أدى بنا إلى اللحاق بالعالم المتخلف، المسمَّى تأدباً: العالم الثالث.. فلهذه الأسباب، كلها، نحن نحتاج اليوم عقلاً جديداً، لعالمنا الجديد.
ما المقصود بالعقل الجديد الذى تحتاجه مصر فى الفترة المقبلة؟.. لقد قالوا قديماً إن (المقارنة) تكشف الاختلافات الجوهرية والفرعية بين الشيئين. ولذلك، فسوف نقارن فيما يلى بين بعض تجليات «العقل القديم» البائس، بصدد بعض الظواهر، ثم نعاود النظر ونعيد الاعتبار (أى أخذ العبرة) فى طريقة التفكير العام والوعى الجماعى، لنرى أن نظام التفكير فى ظل النظام القديم، لم يعد اليوم صالحاً.. فمن أمثلة ذلك:
المنحة يا ريس
اشتُهرت هذه العبارة لعشرات السنين، عند لقاء الرئيس السابق مبارك فى (عيد العمال) مع الجماعة التى من المفترض أنها تمثل عمال مصر. وقد كنا نراهم، عادةً، وبعد استماعهم، صاغرين، إلى معظم ما يريد الرئيس التصريح به فى (خطابه) السنوى بهذه المناسبة المهمة، وقبل أن ينتهى من كل كلامه، يأخذون فى التصايح: المنحة يا ريس، كل سنة وأنت طيب، المنحة..
وبشكل مسرحى، شبه هزلى، يبتسم الرئيسُ وينظر إلى رئيس وزرائه، نظرةَ المستفسر عن أمرٍ كان قد قُدر. فيتشجَّع (العمال) ويصطخبون مبتهجين، ويتعالى العواء بالمطلب (الشعبى) السنوى المقدَّس «المنحة يا ريس».. بينما بقية الفقراء من (الشعب) يتابعون الأمر بشغف على شاشات التليفزيون، ويترقبون (المفاجأة السعيدة) التى سوف يُسفر عنها عيد العمال، وهى: زيادة الرواتب.
وتأتى لحظة «الفرج» حين تنفرج أسارير الرئيس، ثم يعلن بحزم أن الحكومة سوف تمنح العاملين زيادة فى رواتبهم، مقدارها (كذا) من النسبة المئوية للرواتب. وهنا ينفجر الفرحُ وتهلِّل الحناجر بالهتاف المحلِّق فى القاعة العاصفة بالتصفيق الحاد. وفى البيوت والمقاهى، تعلو الابتسامات الشفاه، ويتنهد (الغلابة) ولسان حالهم يهمس فى بواطنهم: سبحان مفرِّج الكروب، وقد يتهامس بعضهم فى آذان بعضهم الآخر، بالعامية: برضه الريس طيب.. وينام الجميع ليلتهم، هانئين.
وفى الصباح يكتشف عوام الناس أن الزيادة فى رواتبهم هى (بحدّ أقصى) بحسب أساسى المرتب الذى هو فى الأصل لا يُسمن ولا يُغنى من جوع. وفى الأيام التالية يدركون أن الأسعار ليس لها من بعد الزيادة السنوية أى أساس أو (حدّ أقصى) وأن البؤس سوف يعمُّ البلاد فى ظل «التضخم» أى زيادة النقد المتداول وزيادة الأسعار، معاً، بحيث لا يتوقف بؤس الناس عند (حدّ أقصى).. وبعد شهورٍ تمرُّ على الناس بطيئةً نراهم يستفيقون، ولا يفيقون، ويتحيَّرون فى حَلِّ معضلة العيش فى ظل التضخم، ولا يتخيَّرون سبيلاً للخروج من هذا المأزق.. ثم يستعدون لتكرار المشهد، وتكرار الفرج الوهمى، فى عيد العمال القادم.
ومؤخراً تجلَّى هذا «العقل القديم» للمصريين، بكل ما فيه من ضعة وبؤس. فعقيب نجاح الثورة فى إزاحة رئيس الجمهورية عن الكرسى الذى التصق به ثلاثين عاماً، وكان من المقرر أن يلتصق من بعده بابنه، وكأنهم يأملون فى إبقاء هذا الوطن تحت أرجلهم ولو لمائة عام.. حتى لو كانت بالنسبة لجمهور الناس، مائةَ عامٍ من العزلة (إشارة: رواية «مائة عام من العزلة» واحدة من الإبداعات الشهيرة لأديب نوبل، جابريل جارسيا ماركيز).
ولهيمنة (العقل القديم) على الكثيرين، هاجت جموع من العاملين بالحكومة مطالبين بزيادة الرواتب، وكأنها استعادة لحالة (عيد العمال) وتغييب لحالة (الثورة الحقيقية). ولأن عيد العمال لن يشهد هذا العام المسرحية السنوية المعتادة، ومع أن المجلس العسكرى استبق الأمر وقرر زيادة الرواتب (الحكومية).. فإن طريقة تفكير «المنحة يا ريس» دفعت كثيرين إلى ما يسمَّى المطالب الفئوية، التى طالما وصفتها وسائل الإعلام والمتحدثون الحكوميون الجدد بأنها (مطالب عادلة)، دون الاجتراء والمبادرة إلى وصفها بصفتها الصحيحة: هى حركةٌ بائسةٌ موروثة، من عقل قديم بائس، لا يناسب الأفق المستقبلىَّ المرجوَّ لمصر.. وإلا، فمن أسهل الأمور على أصحاب القرار: مضاعفة الرواتب، وسيكون من أقسى الأمور على الناس من بعدها: تضاعف الأسعار.
الخطر الإسلامى
نجحت وسائل الإعلام الغربية، لزمنٍ مديد، فى الربط بين مفهومىْ (الإسلام) و(الإرهاب).. وقد استخدمت «الصور» التى يزعمون أنها لا تكذب، لتأكيد هذا الارتباط الوهمى، بحيث يكفى أن تُنشر صورة أسامة بن لادن، وفى إحدى يديه البندقية الآلية وتحت ذقنه لحيته الكثيفة، ليكون ذلك دليلاً على أن الإسلام والإرهاب يرتبطان بالضرورة.. وبناءً على ذلك، صار تعبير (جماعة إسلامية) يقترب فى الأذهان بشدة، من معنى (جماعة إرهابية) وصارت تقترن فى الأذهان تعبيرات: المد الإسلامى، يد الإرهاب، السلفيون، الوهابيون، الإرهابيون... إلخ.
ولم يستطع (العقل القديم) أن يفرِّق بين هذه المعانى المختلطة فى الأذهان، وأن ينتبه إلى أن الصورة النمطية لأسامة بن لادن، وفظائع أعماله إن صحَّ قيامه بها، هى أمورٌ ترتبط بالغرب المعاصر (خصوصاً أمريكا) بأكثر مما ترتبط بالإسلام والمسلمين.. ولطالما استفادت الحكومات المصرية، البائدة، من هذا الربط الوهمى بين الإسلام والإرهاب، فكانت تلك الحكومات كلما دعاها الناس إلى إسقاط قانون الطوارئ، تقول لهم ببراءة الحملان: وماذا نفعل مع الإرهاب.. وإذا دعاها الناس إلى القضاء على الفساد، تطلق دعوات الإصلاح.. وإذا اشتكى الناس من انهيار القيم، خرج صفوت الشريف (!) ليقول: رسالتنا الإعلامية تقوم على أساسٍ متين من قيمنا، وتعمل بجد لدعم أخلاقنا.
وعلى هذا النحو، خايلت الأذهان أوهام الارتباط بين (الإسلام) كخطر داهم يتهدَّد الناس فى الداخل والخارج، ويقترن بلا محالة بالإرهاب، وهو الأمر الذى صدَّقه معظم الناس وبعض الإسلاميين أنفسهم، أو من أسميهم المتأسلمين.. وأوهام الارتباط بين (الحكومة) كضامنٍ للأخلاق العامة، وضابطٍ لما كانوا يسمونه بهتاناً: مناخ الاستقرار. ومن خلف الستار، كانت القوى الحكومية «تلاعب» الاتجاهات الإسلامية، شداً وجذباً، وهى المهمة التى كان جهاز أمن الدولة يقوم بها بشكل مثير.
وقد امتدَّ فى الناس هذا (العقل) القديم، بعد الثورة وأثناءها، فقد سرى فى نفوس الناس الرعب من (سرقة الثورة) ومن (قفز الإسلاميين) على الكراسى، ومن خطر (الإخوان) فى أى انتخابات مقبلة، ومن أن (الجماعات الإسلامية) هى التى كانت وراء اختيار «نعم» فى الاستفتاء الأخير. وهذه كلها آثار وتجليات للعقل القديم، الذى لم يعد مناسباً للعالم الجديد المعقَّد، الذى نعيش فيه اليوم.. فلا الإرهاب قرين الإسلام بالضرورة، ولا قوانين الطوارئ نجحت فى الإمساك بالإرهابيين، ولا الحكومة كانت راعى الأخلاق العامة، ولا كان بمستطاع الذين أفسدوا فى الأرض أن يكونوا هم المصلحين، ولا صفوت الشريف (بالذات) خليق بالدفاع عن القيم والأخلاق، ولا السلفيون هم الوهابيون وليس هم بالضرورة الإرهابيين، ولا الجماعات الإسلامية يبلغ عددها فى مصر (الأربعة عشر مليون ناخب) الذين قالوا نعم. والأهمُّ مما سبق، أن (الثورة) ليست محفظة فى جيب أحدهم، حتى يسرقها النشالون. وهى ليست (تورتة) ليتكالب عليها راغبو النهش ومحترفو الهبش وذابحو الكبش من أجل قرنيه.. فالثورة أفقٌ مستقبلى وأداة للتغيير، يقوم الجميع خلالها بدورهم فى المجتمع، على قاعدة أن الناس سواسية : المسلمين والمتأسلمين والأقباط والمتأقبطين والعلمانيين والمستعلمين والمتعالمين.. وغير أولئك وهؤلاء، من جموع المصريين الذين سيتقاطرون فى الزمن الآتى على صناديق الانتخاب، لاختيار نواب الشعب والرؤساء ونوابهم.
ومع أننى أرى، بشكل شخصى، أن أى حكومة (دينية) فى مصر، مستقبلاً، سوف تؤدى فى الغالب إلى نتائج كارثية على الصعيدين الداخلى والخارجى.. وأرى أن رجال الدين، عموماً، لهم ميدان عمل يختلف فى طبيعته عن مجالات السياسة والاقتصاد، ومن الضرورى أن يقتصر كل فريق على ميدانه ومجاله. لكننى مع ذلك، أرى أن الفزع العام، المفرط، من (هجمة الإسلاميين) على الحكم فى مصر، هو من موروثات العقل القديم.. البائد.. غير الملائم للمرحلة المقبلة.
الفتنة الطائفية
هذا المفهوم العام الموروث، هو أيضاً من تجلِّيات العقل القديم، بل هو مرتبطٌ دوماً بكل عقلية قديمة متخلِّفة، ولذلك نرى الوجوه البشعة للطائفية الدينية فى البلدان المتخلَّفة، بأكثر مما نراها فى العالم المتحضر، الذى يحتاط بشدة من مسألة تقسيم الناس على أساس دينى.. وقد بات معروفاً، أو بالأحرى أرجو ذلك، أن «الفتنة الطائفية» كانت فى مصر «صناعة سياسية» فمنذ استدعى الضباط الأحرار القوى الإسلامية فى زمانهم، كى يستعينوا بها لحين استقرارهم فى الحكم، ثم انقلبوا عليهم وألقوا بهم فى المعتقلات.. ومنذ قام هؤلاء (الأحرار) بإخراج الكنيسة الأرثوذكسية المصرية من إطارها الدينى إلى الملعب السياسى، وأسهموا فى بناء بطريركية (الإسكندرية) فى (القاهرة) وشهروا «البطرك» باسم «البابا».. ومنذ أقام الرئيس السادات كياناً للجماعات الإسلامية، ليستعين به على الجماعات الماركسية. ثم أدخل الأنبا متى المسكين والأنبا شنودة الثالث، فى دوَّامات اللعب السياسى بالدين، على اعتبار أنه الرئيس المؤمن الذى يحكم بالعلم والإيمان.. ومنذ انهمكت حكومات الرئيس السابق (المخلوع) مبارك، فى ملاعبة القوى الدينية بحسب قوانين (التوازن) بزعم بشاعة ما كان يسمَّى مناخ الاستقرار، وهو الأمر الذى أدى فى النهاية إلى شيوع الانهيار، والتوتر الدائم بين أهل الطوائف وأصحاب الديانات، فمن شيعةٍ وسُنَّةٍ فى (الإسلام) إلى أرثوذكس وكاثوليك وبروتسانت/ إنجيليين فى المسيحية، إلى نزاعات بين الجميع وتفجيرات غير مفهومة المقصد، بين كنيسةٍ ومسجد.. منذ جرى هذا، وذاك، تشكَّلت فى فراغ الوعى المصرى العام المشكلة المسماة: الفتنة الطائفية. وراحت تغذيها (مطالب الأقباط) وتؤجِّجها (اتجاهات الإسلاميين) وتبرزها (المساعى الحكومية) لتهدئة الأحوال وتطييب الخواطر بزيارات رجال الدولة المتوالية لرجال الدين.
ومع النفى الحكومى المستمر لفكرة الفتنة الطائفية، تأكَّدت الفكرة. ومع الادعاء بأن الحكومة سوف تضرب بيدٍ من حديد، كلَّ ما يهدد وحدة الشعب وسلامته، ازدادت الاضطرابات والتهديدات المؤكدة لسلطان الحكومة ودورها فى إحداث (التوازن) المطلوب. ومع الصورة النمطية لشيخ الأزهر وبابا الأقباط، وهما يتعانقان، تعقَّدت الأمور فى أذهان العامة والبسطاء الذين كانوا دوماً، لا يعتدون كثيراً باختلافهم فى العقائد أو الديانات.
وحين قامت الثورة، كنست كل الوقائع والذكريات الأليمة التى علقت بالأذهان تحت عنوان «الفتنة الطائفية» وجرى، عياناً، ما شهدناه من التحام المصريين على اختلاف دياناتهم ومذاهبهم. وكأن أيام الثورة كانت (لحظة الاستفاقة) من الأوهام المعشِّشة فى العقول.. لكن الحال الجديد، فيما يبدو لى، كان يهدِّد مصالح بعض الذين كانوا بالقطع مستفيدين مما يسمَّى الفتنة الطائفية. ولذلك، طفرت فى أعقاب الثورة وقائع غير مفهومة، كتلك التى جرت فى (أطفيح) وعند مبنى (ماسبيرو) وغيرها من الأحداث خفية الأسباب والدوافع.. وما هى فى واقع الأمر، إلا استخدامٌ نفعىٌّ بائس، لنظام (العقل القديم) الذى تجلَّى فى إحياء المخاوف فى قلوب المسيحيين، وفى زعيق المتعصِّبين من مشايخ المسلمين بأن: مصر دولتهم التى ظفروا بها فى «غزوة الصناديق» فإذا لم يقنع بذلك غير المسلمين، فعليهم أن يرحلوا من البلاد.
ولهؤلاء الخائفين وأولئك المخوِّفين، بل ولعموم المصريين، أقول: إن طريقة التفكير هذه، لم تعد مناسبة للأفق المستقبلىِّ لهذا البلد، الذى نسعى لنهوضه فى منطقة تعجُّ بالاضطرابات. ولن يقوم هذا (الوطن) إلا بأفعالنا الرشيدة وتفكيرنا النابع من: عقلٍ جديد لعالمٍ جديد.
■ ■ ■
وبعد.. فلم يبقَ لنا من هذه (السباعية) إلا مقالة واحدة، هى التى سنلتقى معها الأسبوع القادم، ونورد فيها بعض الأفكار والتصورات المستلهَمة من العقل الجديد (الفعَّال) ونجعلها بعنوان: إحياء الأمل بخطط العمل.. فإلى لقاء.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.