بطريرك السريان الكاثوليك يزور بازيليك Notre-Dame de la Garde بمرسيليا    أسقف نجع حمادي يقدم التهنئة للقيادات التنفيذية بمناسبة عيد الأضحى    أسماء رفعت تكتب: قضية الدعم بين رؤية الحكومة واحتياجات المواطنين    إعلام عبري: نتنياهو اختار مواجهة أخرى مع إدارة بايدن    وزير الخارجية الإسرائيلي يتوعد بتدمير حزب الله حال نشوب حرب شاملة    تعرف على موعد مباراة البرازيل وكوستاريكا في بطولة كوبا أمريكا 2024    وكيل صحة الإسماعيلية تترأس حملة مكبرة للتفتيش على المنشآت الغذائية    حوت الساحل الشمالي النافق.. وزيرة البيئة توجه "رسالة طمأنة"    وليد يوسف ينفي تعرض ابنه لوعكة صحية: "تشابه أسماء"    "الأعلى للآثار" يكشف عدد زائري المواقع الأثرية والمتاحف خلال العيد    أمجد سمير يكتب: الأضحية والفكر البشري    إحالة مدير مناوب في مستشفى بدمياط إلى التحقيق    بدائل الثانوية الأزهرية| معهد تمريض مستشفى باب الشعرية - الشروط وتفاصيل التقديم    البنتاجون: لا أحد يريد أن يرى حربا إقليمية فى الشرق الأوسط    "حياة كريمة" بسوهاج تقدم تروسيكل وأجهزة كهربائية لبائع غزل البنات (صور)    كولر يوضح تصريحاته بخصوص كهربا    "أدافع عن سمعتي".. تصريحات غاضبة من كولر مدرب الأهلي بخصوص موديست    هيئة بحرية بريطانية: غرق سفينة بعد استهدافها بزورق مفخخ يوم 12 يونيو    دليلك الكامل ل بطاقة الخدمات المتكاملة 2024.. الاستعلام وشروط التسجيل والأوراق والمزايا    البحيرة: وصول 103 آلاف شجرة بالمرحلة الثانية ل "المبادرة الرئاسية"    «المنشاوي» يشيد بالعمل المتواصل بجامعة أسيوط من أجل بيئة أفضل    مقتل وإصابة 23 شخصا وفقدان 20 جراء انهيارات أرضية في الإكوادور    تفاصيل أكبر حفل جماهيري لتامر حسني في عيد الأضحى 2024 (صور)    سرب نحل يغزو ملعب ألمانيا ضد المجر قبل مباراة غد فى يورو 2024.. صور    مساعد وزير الداخلية الأسبق: الجرائم تكتمل بمجني عليه «جاهل طماع» ومتهم «ذكي محتال»    بيت الزكاة والصدقات يستعد لتوزيع 300 طن لحوم على المستحقين غدا    «ري كفر الشيخ»: متابعة مناسيب المياه بالترع والمصارف على مدار الساعة    دليلك الكامل للالتحاق ب مدارس التمريض 2024.. شروط التسجيل والأوراق المطلوبة والمزايا    دار الإفتاء عن حكم التعجل في رمي الجمرات خلال يومين: جائز شرعا    الصحة: ترشيح 8 آلاف و481 عضو مهن طبية للدراسات العليا بالجامعات    لسهرة مميزة في العيد، حلويات سريعة التحضير قدميها لأسرتك    أخبار الأهلي : تصنيف "فيفا" الجديد ل منتخب مصر يفاجئ حسام حسن    الأحد.. أُسرة أبو العينين شعيشع تُحيي ذكرى رحيله بمسقط رأسه    عودة الاقتصاد المصرى إلى مسار أكثر استقرارا فى عدد اليوم السابع غدا    إسماعيل فرغلي يكشف عن تفاصيل إصابته بالسرطان    «البيئة» توضح تفاصيل العثور على حوت نافق بالساحل الشمالي    جدول مباريات ريال مدريد بالكامل فى الدورى الإسبانى 2024-2025    الجارديان: حل مجلس الحرب سيدفع نتنياهو لمواجهة الفشل وحده    "تخاذل من التحكيم".. نبيل الحلفاوي يعلق على أزمة ركلة جزاء الزمالك أمام المصري    «الصحة» تقدم نصائح لتجنب زيادة الوزن في عطلة عيد الأضحى    هل يؤاخذ الإنسان على الأفكار والهواجس السلبية التي تخطر بباله؟    مجدي يعقوب يشيد بمشروع التأمين الصحي الشامل ويوجه رسالة للرئيس السيسي    تفاصيل جديدة في واقعة وفاة الطيار المصري حسن عدس خلال رحلة للسعودية    الجثمان مفقود.. غرق شاب في مياه البحر بالكيلو 21 بالإسكندرية    شد الحبل وكراسى موسيقية وبالونات.. مراكز شباب الأقصر تبهج الأطفال فى العيد.. صور    تنسيق الأزهر 2025.. ما هي الكليات التي يتطلب الالتحاق بها عقد اختبارات قدرات؟    خبير سياحي: الدولة وفرت الخدمات بالمحميات الطبيعية استعدادا لاستقبال الزوار    الصحة: فحص 14 مليون مواطن ضمن مبادرة الكشف المبكر عن الأمراض المزمنة والاعتلال الكلوي    دعاء الخروج من مكة والتوجه إلى منى.. «اللهم إياك أرجو ولك أدعو»    البحيرة تنظم رحلات نيلية وكرنفالات وعروض فنية احتفالا بعيد الأضحى    دار الإفتاء: ترك مخلفات الذبح في الشوارع حرام شرعًا    الحرس القديم سلاح البرتغال في يورو 2024    الاتحاد الأوروبي والصين يعقدان الحوار ال39 بشأن حقوق الإنسان والعلاقات المشتركة    "سويلم" يوجه باتخاذ الإجراءات اللازمة للاطمئنان على حالة الري خلال عيد الأضحى    عبد الله غلوش: «إفيهات» الزعيم عادل إمام لا تفقد جاذبيتها رغم مرور الزمن    مدرب بلجيكا: لم نقصر ضد سلوفاكيا ولو سجلنا لاختلف الحديث تماما    العثور على جثة شخص بجوار حوض صرف صحى فى قنا    مصرع شخص وإصابة 5 فى حادث تصادم بالدقهلية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الآفاق المصيرية للثورة المصرية (6/7) .. عقلٌ جديد لعالمٍ جديد
نشر في المراقب يوم 30 - 03 - 2011

هل نحتاج، نحن المصريين المعاصرين، نظاماً جديداً للإدراك والتفكير، ليكون متوافقاً مع الآفاق المستقبلية التى كشفت عنها ثورتنا؟ بعبارة أخرى: هل يلزمنا عقلٌ جديد، لعالم جديد، بدأت آفاقه تلوح فى المدى المستقبلى المصرى والعربى؟
إن عنوان هذه المقالة، وسؤالها الأساسى، مأخوذٌ بنصِّه من العنوان العربى لكتابٍ إنجليزى، قام د. أحمد مستجير (رحمه الله) بترجمته إلى العربية، وقمتُ بنشره ضمن سلسلة كتب كان عنوانها «الفلسفة والعلم» تولَّت إصدارها هيئة قصور الثقافة، التابعة لوزارة الثقافة المصرية، وهى السلسلة التى أنشأتُها وأشرفتُ عليها، متطوِّعاً (بدون مقابل مالى) فى منتصف التسعينيات من القرن الماضى، ونشرتُ من خلالها عدة كتب، كان منها: فلسفة الرياضيات، إشكالية المنهج فى العلوم الإنسانية، إشكالية المصطلح، حَىّ بن يقظان.. ثم اكتشفت هيئة «قصور» الثقافة، أن الفلسفة والعلم لا يدخلان فى نطاق اهتمامها، ولا يقعان ضمن أولويات وزارة الثقافة. لأن جمهور الناس فى مصر، فيما زعموا، لا يهتمون بالفلسفة ولا بالعلم (مع أن هذه الكتب كانت تنفد فور صدورها) وتوقفت السلسلة عن الصدور، وفقاً لهذا المنطق العجيب المعكوس، القائل بالعامية: الجمهور عاوز غير كده.
والكتاب الذى نُشر تحت عنوان مقالة اليوم، وضعه اثنان من المؤلفين الأمريكيين هما: روبرت أورنشتاين وبول أورليش. وفيه يطرحان فكرةً لطيفة، ملخصها أن الإنسان المعاصر يواجه أزمةً لا يشعر بها، مع أنها بالغة الخطورة. فقد ظل (عقل) الإنسان، لمئات الآلاف من السنين، يعتمد على المعطيات التى تقدِّمها له الحواس الخمس، المباشرة، التى تقوم بتحذيره من «الأخطار» التى تواجهه وتهدِّد بقاءه، فى تلك الأزمنة السحيقة التى كان البشر يعيشون أثناءها فى الكهوف، وفوق الأشجار، فى صراع مرير من أجل البقاء.. (إشارة: يعيش البشر على الأرض، منذ قرابة مليون سنة).
ولا يزال معظم الناس، حسبما يقول المؤلِّفان، يفكرون فى الأمور ويعقلون ما حولهم وفقاً لطريقة الإنسان البدائى، وهو ما لا يتناسب مع الطبيعة المعدة للحياة فى الزمن المعاصر. ولذلك، تراهم يتصرَّفون، ويستجيبون، بشكل (غير ملائم) للأحداث المحيطة بهم. فنجدهم مثلاً ينزعجون كثيراً، ويتابعون بشغف، أخبار اختطاف (الإرهابيين) لمجموعة من المواطنين، وقد يبقون شهوراً حريصين على التقاط أخبارهم من وسائل الإعلام. بينما لا نراهم يتوقفون فى غمرة اهتمامهم هذا، عند إحصائيات تقول إن عدد القتلى فى حوادث الطرق السريعة، بلغ فى هذا العام عدة آلاف! وهكذا ينصرف (العقل البدائى) إلى الاهتمام بمصير عدة أفراد، قد ينجون أو يُقتلون، بأكثر من اهتمامه بآلافٍ من الأفراد قُتلوا بالفعل.
وقد تذكرتُ هذا الأمر، قبل عامين، عندما دُعيتُ لاستعراض (الصحف) فى فقرة قراءة الجرائد ببرنامج تليفزيونى شهير، فلحظتُ يومها أن أربع عشرة صفحة من الجرائد التى كانت ليلتها بين يدىَّ، تتحدث عن واقعة مقتل المرأة اللبنانية، جميلة الصورة، بتحريض من المقاول الشهير «هشام طلعت مصطفى» بينما رأيتُ ليلتها فى جريدة الأهرام، على الصفحة الأولى، خبراً لا تزيد مساحته على عقلة إصبع، يقول إن أمريكا أعطت إسرائيل مائة صاروخ بعيد المدى (إشارة: بعيد المدى، أى بإمكانه إصابة السد العالى، مثلاً) ومع ذلك، لم يهتم الناس بالخبر الصغير، ولم تتابعه وسائل الإعلام بعدها، نظراً للانشغال العام بقضية مقتل (سوزان تميم) فى مدينة دبى. وكأن هذا الموضوع أخطر شأناً، وأعظم تأثيراً فى المصريين، من خبر الصواريخ.
■ ■ ■
ولأننا اليوم «على أعتاب مرحلة جديدة» حسبما نسمع كثيراً، من المتكلمين الكثيرين الذين يتصدَّرون يومياً وسائل الإعلام الكثيرة، ولا يكفون لحظةً عن الكلام والكتابة والإفتاء بعلمٍ وبغير علم.. (إشارة: قد يكون إفتاؤهم مشتقاً من كلمة «فُتيا» أو من كلمة «فتَّة» وهما كلمتان لا يرى البعض بينهما فرقاً كبيراً).
ولأننا تأكدنا مؤخراً من (سقوط) النظام السابق بكل عوالمه الفاسدة، وصرنا نطالب بملاحقة بقاياه، وفلوله (إشارة: الاستعمال الإعلامى الكثيف لكلمة «فلول» غير صحيح فى اللغة، لأن الفلول هم «المنهزمون» وهؤلاء الذين يُطالب المصريون بمحاسبتهم، لم يعلنوا انهزامهم بعد).
ولأننا بشكل عمومى، صرنا نأمل فى إحداث طفرة حضارية، حقيقية، لهذا البلد الهادر العظيم. بعد سنين طوال من التعثر وتبديد الطاقة فيما لا طائل تحته، إلا خدمة العروش والجيوش، وهو الأمر الذى أدى بنا إلى اللحاق بالعالم المتخلف، المسمَّى تأدباً: العالم الثالث.. فلهذه الأسباب، كلها، نحن نحتاج اليوم عقلاً جديداً، لعالمنا الجديد.
ما المقصود بالعقل الجديد الذى تحتاجه مصر فى الفترة المقبلة؟.. لقد قالوا قديماً إن (المقارنة) تكشف الاختلافات الجوهرية والفرعية بين الشيئين. ولذلك، فسوف نقارن فيما يلى بين بعض تجليات «العقل القديم» البائس، بصدد بعض الظواهر، ثم نعاود النظر ونعيد الاعتبار (أى أخذ العبرة) فى طريقة التفكير العام والوعى الجماعى، لنرى أن نظام التفكير فى ظل النظام القديم، لم يعد اليوم صالحاً.. فمن أمثلة ذلك:
المنحة يا ريس
اشتُهرت هذه العبارة لعشرات السنين، عند لقاء الرئيس السابق مبارك فى (عيد العمال) مع الجماعة التى من المفترض أنها تمثل عمال مصر. وقد كنا نراهم، عادةً، وبعد استماعهم، صاغرين، إلى معظم ما يريد الرئيس التصريح به فى (خطابه) السنوى بهذه المناسبة المهمة، وقبل أن ينتهى من كل كلامه، يأخذون فى التصايح: المنحة يا ريس، كل سنة وأنت طيب، المنحة..
وبشكل مسرحى، شبه هزلى، يبتسم الرئيسُ وينظر إلى رئيس وزرائه، نظرةَ المستفسر عن أمرٍ كان قد قُدر. فيتشجَّع (العمال) ويصطخبون مبتهجين، ويتعالى العواء بالمطلب (الشعبى) السنوى المقدَّس «المنحة يا ريس».. بينما بقية الفقراء من (الشعب) يتابعون الأمر بشغف على شاشات التليفزيون، ويترقبون (المفاجأة السعيدة) التى سوف يُسفر عنها عيد العمال، وهى: زيادة الرواتب.
وتأتى لحظة «الفرج» حين تنفرج أسارير الرئيس، ثم يعلن بحزم أن الحكومة سوف تمنح العاملين زيادة فى رواتبهم، مقدارها (كذا) من النسبة المئوية للرواتب. وهنا ينفجر الفرحُ وتهلِّل الحناجر بالهتاف المحلِّق فى القاعة العاصفة بالتصفيق الحاد. وفى البيوت والمقاهى، تعلو الابتسامات الشفاه، ويتنهد (الغلابة) ولسان حالهم يهمس فى بواطنهم: سبحان مفرِّج الكروب، وقد يتهامس بعضهم فى آذان بعضهم الآخر، بالعامية: برضه الريس طيب.. وينام الجميع ليلتهم، هانئين.
وفى الصباح يكتشف عوام الناس أن الزيادة فى رواتبهم هى (بحدّ أقصى) بحسب أساسى المرتب الذى هو فى الأصل لا يُسمن ولا يُغنى من جوع. وفى الأيام التالية يدركون أن الأسعار ليس لها من بعد الزيادة السنوية أى أساس أو (حدّ أقصى) وأن البؤس سوف يعمُّ البلاد فى ظل «التضخم» أى زيادة النقد المتداول وزيادة الأسعار، معاً، بحيث لا يتوقف بؤس الناس عند (حدّ أقصى).. وبعد شهورٍ تمرُّ على الناس بطيئةً نراهم يستفيقون، ولا يفيقون، ويتحيَّرون فى حَلِّ معضلة العيش فى ظل التضخم، ولا يتخيَّرون سبيلاً للخروج من هذا المأزق.. ثم يستعدون لتكرار المشهد، وتكرار الفرج الوهمى، فى عيد العمال القادم.
ومؤخراً تجلَّى هذا «العقل القديم» للمصريين، بكل ما فيه من ضعة وبؤس. فعقيب نجاح الثورة فى إزاحة رئيس الجمهورية عن الكرسى الذى التصق به ثلاثين عاماً، وكان من المقرر أن يلتصق من بعده بابنه، وكأنهم يأملون فى إبقاء هذا الوطن تحت أرجلهم ولو لمائة عام.. حتى لو كانت بالنسبة لجمهور الناس، مائةَ عامٍ من العزلة (إشارة: رواية «مائة عام من العزلة» واحدة من الإبداعات الشهيرة لأديب نوبل، جابريل جارسيا ماركيز).
ولهيمنة (العقل القديم) على الكثيرين، هاجت جموع من العاملين بالحكومة مطالبين بزيادة الرواتب، وكأنها استعادة لحالة (عيد العمال) وتغييب لحالة (الثورة الحقيقية). ولأن عيد العمال لن يشهد هذا العام المسرحية السنوية المعتادة، ومع أن المجلس العسكرى استبق الأمر وقرر زيادة الرواتب (الحكومية).. فإن طريقة تفكير «المنحة يا ريس» دفعت كثيرين إلى ما يسمَّى المطالب الفئوية، التى طالما وصفتها وسائل الإعلام والمتحدثون الحكوميون الجدد بأنها (مطالب عادلة)، دون الاجتراء والمبادرة إلى وصفها بصفتها الصحيحة: هى حركةٌ بائسةٌ موروثة، من عقل قديم بائس، لا يناسب الأفق المستقبلىَّ المرجوَّ لمصر.. وإلا، فمن أسهل الأمور على أصحاب القرار: مضاعفة الرواتب، وسيكون من أقسى الأمور على الناس من بعدها: تضاعف الأسعار.
الخطر الإسلامى
نجحت وسائل الإعلام الغربية، لزمنٍ مديد، فى الربط بين مفهومىْ (الإسلام) و(الإرهاب).. وقد استخدمت «الصور» التى يزعمون أنها لا تكذب، لتأكيد هذا الارتباط الوهمى، بحيث يكفى أن تُنشر صورة أسامة بن لادن، وفى إحدى يديه البندقية الآلية وتحت ذقنه لحيته الكثيفة، ليكون ذلك دليلاً على أن الإسلام والإرهاب يرتبطان بالضرورة.. وبناءً على ذلك، صار تعبير (جماعة إسلامية) يقترب فى الأذهان بشدة، من معنى (جماعة إرهابية) وصارت تقترن فى الأذهان تعبيرات: المد الإسلامى، يد الإرهاب، السلفيون، الوهابيون، الإرهابيون... إلخ.
ولم يستطع (العقل القديم) أن يفرِّق بين هذه المعانى المختلطة فى الأذهان، وأن ينتبه إلى أن الصورة النمطية لأسامة بن لادن، وفظائع أعماله إن صحَّ قيامه بها، هى أمورٌ ترتبط بالغرب المعاصر (خصوصاً أمريكا) بأكثر مما ترتبط بالإسلام والمسلمين.. ولطالما استفادت الحكومات المصرية، البائدة، من هذا الربط الوهمى بين الإسلام والإرهاب، فكانت تلك الحكومات كلما دعاها الناس إلى إسقاط قانون الطوارئ، تقول لهم ببراءة الحملان: وماذا نفعل مع الإرهاب.. وإذا دعاها الناس إلى القضاء على الفساد، تطلق دعوات الإصلاح.. وإذا اشتكى الناس من انهيار القيم، خرج صفوت الشريف (!) ليقول: رسالتنا الإعلامية تقوم على أساسٍ متين من قيمنا، وتعمل بجد لدعم أخلاقنا.
وعلى هذا النحو، خايلت الأذهان أوهام الارتباط بين (الإسلام) كخطر داهم يتهدَّد الناس فى الداخل والخارج، ويقترن بلا محالة بالإرهاب، وهو الأمر الذى صدَّقه معظم الناس وبعض الإسلاميين أنفسهم، أو من أسميهم المتأسلمين.. وأوهام الارتباط بين (الحكومة) كضامنٍ للأخلاق العامة، وضابطٍ لما كانوا يسمونه بهتاناً: مناخ الاستقرار. ومن خلف الستار، كانت القوى الحكومية «تلاعب» الاتجاهات الإسلامية، شداً وجذباً، وهى المهمة التى كان جهاز أمن الدولة يقوم بها بشكل مثير.
وقد امتدَّ فى الناس هذا (العقل) القديم، بعد الثورة وأثناءها، فقد سرى فى نفوس الناس الرعب من (سرقة الثورة) ومن (قفز الإسلاميين) على الكراسى، ومن خطر (الإخوان) فى أى انتخابات مقبلة، ومن أن (الجماعات الإسلامية) هى التى كانت وراء اختيار «نعم» فى الاستفتاء الأخير. وهذه كلها آثار وتجليات للعقل القديم، الذى لم يعد مناسباً للعالم الجديد المعقَّد، الذى نعيش فيه اليوم.. فلا الإرهاب قرين الإسلام بالضرورة، ولا قوانين الطوارئ نجحت فى الإمساك بالإرهابيين، ولا الحكومة كانت راعى الأخلاق العامة، ولا كان بمستطاع الذين أفسدوا فى الأرض أن يكونوا هم المصلحين، ولا صفوت الشريف (بالذات) خليق بالدفاع عن القيم والأخلاق، ولا السلفيون هم الوهابيون وليس هم بالضرورة الإرهابيين، ولا الجماعات الإسلامية يبلغ عددها فى مصر (الأربعة عشر مليون ناخب) الذين قالوا نعم. والأهمُّ مما سبق، أن (الثورة) ليست محفظة فى جيب أحدهم، حتى يسرقها النشالون. وهى ليست (تورتة) ليتكالب عليها راغبو النهش ومحترفو الهبش وذابحو الكبش من أجل قرنيه.. فالثورة أفقٌ مستقبلى وأداة للتغيير، يقوم الجميع خلالها بدورهم فى المجتمع، على قاعدة أن الناس سواسية : المسلمين والمتأسلمين والأقباط والمتأقبطين والعلمانيين والمستعلمين والمتعالمين.. وغير أولئك وهؤلاء، من جموع المصريين الذين سيتقاطرون فى الزمن الآتى على صناديق الانتخاب، لاختيار نواب الشعب والرؤساء ونوابهم.
ومع أننى أرى، بشكل شخصى، أن أى حكومة (دينية) فى مصر، مستقبلاً، سوف تؤدى فى الغالب إلى نتائج كارثية على الصعيدين الداخلى والخارجى.. وأرى أن رجال الدين، عموماً، لهم ميدان عمل يختلف فى طبيعته عن مجالات السياسة والاقتصاد، ومن الضرورى أن يقتصر كل فريق على ميدانه ومجاله. لكننى مع ذلك، أرى أن الفزع العام، المفرط، من (هجمة الإسلاميين) على الحكم فى مصر، هو من موروثات العقل القديم.. البائد.. غير الملائم للمرحلة المقبلة.
الفتنة الطائفية
هذا المفهوم العام الموروث، هو أيضاً من تجلِّيات العقل القديم، بل هو مرتبطٌ دوماً بكل عقلية قديمة متخلِّفة، ولذلك نرى الوجوه البشعة للطائفية الدينية فى البلدان المتخلَّفة، بأكثر مما نراها فى العالم المتحضر، الذى يحتاط بشدة من مسألة تقسيم الناس على أساس دينى.. وقد بات معروفاً، أو بالأحرى أرجو ذلك، أن «الفتنة الطائفية» كانت فى مصر «صناعة سياسية» فمنذ استدعى الضباط الأحرار القوى الإسلامية فى زمانهم، كى يستعينوا بها لحين استقرارهم فى الحكم، ثم انقلبوا عليهم وألقوا بهم فى المعتقلات.. ومنذ قام هؤلاء (الأحرار) بإخراج الكنيسة الأرثوذكسية المصرية من إطارها الدينى إلى الملعب السياسى، وأسهموا فى بناء بطريركية (الإسكندرية) فى (القاهرة) وشهروا «البطرك» باسم «البابا».. ومنذ أقام الرئيس السادات كياناً للجماعات الإسلامية، ليستعين به على الجماعات الماركسية. ثم أدخل الأنبا متى المسكين والأنبا شنودة الثالث، فى دوَّامات اللعب السياسى بالدين، على اعتبار أنه الرئيس المؤمن الذى يحكم بالعلم والإيمان.. ومنذ انهمكت حكومات الرئيس السابق (المخلوع) مبارك، فى ملاعبة القوى الدينية بحسب قوانين (التوازن) بزعم بشاعة ما كان يسمَّى مناخ الاستقرار، وهو الأمر الذى أدى فى النهاية إلى شيوع الانهيار، والتوتر الدائم بين أهل الطوائف وأصحاب الديانات، فمن شيعةٍ وسُنَّةٍ فى (الإسلام) إلى أرثوذكس وكاثوليك وبروتسانت/ إنجيليين فى المسيحية، إلى نزاعات بين الجميع وتفجيرات غير مفهومة المقصد، بين كنيسةٍ ومسجد.. منذ جرى هذا، وذاك، تشكَّلت فى فراغ الوعى المصرى العام المشكلة المسماة: الفتنة الطائفية. وراحت تغذيها (مطالب الأقباط) وتؤجِّجها (اتجاهات الإسلاميين) وتبرزها (المساعى الحكومية) لتهدئة الأحوال وتطييب الخواطر بزيارات رجال الدولة المتوالية لرجال الدين.
ومع النفى الحكومى المستمر لفكرة الفتنة الطائفية، تأكَّدت الفكرة. ومع الادعاء بأن الحكومة سوف تضرب بيدٍ من حديد، كلَّ ما يهدد وحدة الشعب وسلامته، ازدادت الاضطرابات والتهديدات المؤكدة لسلطان الحكومة ودورها فى إحداث (التوازن) المطلوب. ومع الصورة النمطية لشيخ الأزهر وبابا الأقباط، وهما يتعانقان، تعقَّدت الأمور فى أذهان العامة والبسطاء الذين كانوا دوماً، لا يعتدون كثيراً باختلافهم فى العقائد أو الديانات.
وحين قامت الثورة، كنست كل الوقائع والذكريات الأليمة التى علقت بالأذهان تحت عنوان «الفتنة الطائفية» وجرى، عياناً، ما شهدناه من التحام المصريين على اختلاف دياناتهم ومذاهبهم. وكأن أيام الثورة كانت (لحظة الاستفاقة) من الأوهام المعشِّشة فى العقول.. لكن الحال الجديد، فيما يبدو لى، كان يهدِّد مصالح بعض الذين كانوا بالقطع مستفيدين مما يسمَّى الفتنة الطائفية. ولذلك، طفرت فى أعقاب الثورة وقائع غير مفهومة، كتلك التى جرت فى (أطفيح) وعند مبنى (ماسبيرو) وغيرها من الأحداث خفية الأسباب والدوافع.. وما هى فى واقع الأمر، إلا استخدامٌ نفعىٌّ بائس، لنظام (العقل القديم) الذى تجلَّى فى إحياء المخاوف فى قلوب المسيحيين، وفى زعيق المتعصِّبين من مشايخ المسلمين بأن: مصر دولتهم التى ظفروا بها فى «غزوة الصناديق» فإذا لم يقنع بذلك غير المسلمين، فعليهم أن يرحلوا من البلاد.
ولهؤلاء الخائفين وأولئك المخوِّفين، بل ولعموم المصريين، أقول: إن طريقة التفكير هذه، لم تعد مناسبة للأفق المستقبلىِّ لهذا البلد، الذى نسعى لنهوضه فى منطقة تعجُّ بالاضطرابات. ولن يقوم هذا (الوطن) إلا بأفعالنا الرشيدة وتفكيرنا النابع من: عقلٍ جديد لعالمٍ جديد.
■ ■ ■
وبعد.. فلم يبقَ لنا من هذه (السباعية) إلا مقالة واحدة، هى التى سنلتقى معها الأسبوع القادم، ونورد فيها بعض الأفكار والتصورات المستلهَمة من العقل الجديد (الفعَّال) ونجعلها بعنوان: إحياء الأمل بخطط العمل.. فإلى لقاء.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.