«الوطن» كلمة نتداولها وكأنها من المسلمات، ماذا نقصد بالوطن؟ هل الوطن هو الأرض التى نسكنها أم الذكريات التى تسكننا؟ هل من يهاجر وطنه يهجره؟ أم أنه ربما يكون أكثر التصاقا به. ميلان كونديرا واحد من هؤلاء الذين لم تغادرهم أوطانهم رغم أنه غادرها منذ ما يقرب من أربعين عاما، وذهب ليعيش فى فرنسا مرغما، ولكن هذا الكاتب لايجد ما يصف به نفسه سوى سطر واحد يحرص على أن يتصدر كل مؤلفاته المنشورة فى فرنسا وهو : "ميلان كونديرا ولد فى التشيك ويعيش، منذ 1975، فى فرنسا " تعريف موجز ومكثف ، فهو ينتمى إلى حيث كان ومازال. فى عام 1979صرح للكاتب الفرنسى الان فنكيلكرو، الذى أجرى معه حديثا مطولا لصحيفة «كوريردولاسيرا» الايطالية، أن كتبه المترجمة إلى الفرنسية لاتعبر عنه، فهى تفتقد للكثير من المعانى التى حرص عليها، ويضاف إليها مالم يفكر فيه يوما، وربما ذلك ما دعاه لأن يبدأ منذ عام 1993 فى الكتابة بالفرنسية مباشرة، بعد أن أمضى سنوات طويلة فى بلده الجديدة التى حصل على جنسيتها عام 1981 بعد أن أسقطت بلده عنه الجنسية باعتباره معاديا لنظامها وقتذاك، إنها نكبة المبدعين مع الأنظمة الشمولية التى تريد أن تحول الجميع لمجرد أرقام فى طابور طويل يطيع ولايسأل فالسؤال على حد قول كونديرا : سكين تمزق صورة هذه النظم وتفضحها. «البطء» كانت أول رواية له بالفرنسية، نشرها عام 1995، ولكن على حد قول الناقد الأدبى مارتن دانس فإنه يكتب بالفرنسية لكنه مازال يفكر بالتشيكية، فهو ببساطة يترجم لنفسه ما يكتبه . ظل كونديرا مخلصا لمشروعه الأدبى وذكريات حياته الأولى فى بلده الأم فى كل رواياته ، كتاباته مكثفة وكأنها أبيات من الشعر، عميقة ككتب الفلسفة، الشهر الماضى نشرت له دار جاليمارالفرنسية رواية جديدة بعنوان Fête de l'insignifiance "عيد اللامعنى " وهناك من يترجمها " حفلة التفاهة ". وكالعادة، فإن كونديرا يكتب الفلسفة فى ثوب روائى ، فيقول على لسان أحد شخصيات الرواية : الوقت ينساب. بفضله نحن أولاً أحياء، ما يعني أننا متّهَمون ومحاكَمون، ثم وفي وقت لاحق نموت. لكننا نبقى بضع سنوات مع أولئك الذين عرفونا، وسرعان ما يطرأ تغيّر جديد: الأموات يصبحون أمواتاً قدامى ولا أحد يعود يتذكرهم ويتبددون في العدم. هناك قلة قليلة فقط تترك أسماءها في الذاكرة، ولكن في غياب شاهد حقيقي وفي غياب ذكرى فعلية، تتحول هذه الأسماء إلى مجرد دمى متحركة. تأتي رواية كونديرا هذه بعد روايته التي تحمل عنوان «الجهل»، والتى صدرت عام 2000، أربعة عشر عاما من الصمت ، ولكنه صمت المتأمل المبدع . يحاول كونديرا في عمله الأخير أن ينظر نظرة ساخرة إلى ما حوله. يضحك من العصر الذي يعيش فيه، ويسخر منه ويدفع بتلك السخرية إلى اتجاه أن تصبح هي أيضاً بلا معنى، وكل ذلك بأسلوب كونديرا الواعى وبالحضور القوي لأبطاله، ولكن في غياب أي رسالة، أو أن رسالة هذا الكتاب هي: اللاجدوى من كلّ شيء....فالعالم يعيش التفاهة . يكتب ميلان كونديرا وهو في الخامسة والثمانين بروح شاب في العشرين، ولكن بعمق الكاتب المتمرس الذي بلغ الحكمة، وكتابه الجديد يختصر مؤلفاته وكتبه السابقة.. في زمن يقوم أساساً على الإعلان والترويج، اختار ميلان كونديرا العزلة، ومنذ صدور كتابه «فن الرواية» عام 1986، أي منذ حوالى ثلاثين عاماً، وهو يلتزم الصمت على المستوى الإعلامي ويرفض المقابلات الصحفية . ولقد علل قراره بقوله: إن ما يعنيه فعلاً على المستوى الشخصي هو الكتاب وليس الكاتب الذي يكتبه. في روايته «حفلة التفاهة» كما في كل أعماله، نجد أنفسنا أمام كاتب واسع الثقافة وهو في الوقت نفسه لايتحذلق على القارئ، وهذا ما يمنح رواياته التميز و الجاذبية التي وصلت إلى القمة في «الكائن الذي لا تحتمل خفته»، الرواية التي تحولت إلى فيلم سينمائي . روايته الأخيرة ككل أعماله، لايحاول أن يضع معايير أخلاقية ولا أن يصل بك إلى نتائج قاطعة، فهو دائما منحاز للشك يهمه السؤال ولا تعنيه الإجابة. وهو يختصر رؤيته فى عبارة وردت على لسان أحد أبطال الرواية : «اللامعنى، يا صديقي، هو جوهر الوجود. وهو معنا دائماً في كل مكان. إنه موجود حتى حيث لا أحد يريد أن يراه: في الأهوال وفي الصراعات الدموية وفي أخطر المآسي. ولكن ليس المقصود هو التعرف إلى اللامعنى، بل التعلق به وتعلّم كيفية الوقوع في حبّه، صديقى، تنفس هذه التفاهة التى تحيط بنا، إنها مفتاح الحكمة، مفتاح المزاج الجيد والرضا». مى عزام [email protected] .