تناولت فى المقال السابق عقلية نظرية المؤامرة، وأشرت إلى أنها تختلف جذرياً عن المنطق العقلانى، الذى يحاول فهم الأمور من خلال نظريات يمكن تقييمها عملياً. وينطبق ذلك على الفكر العلمى حتى فى حالة تناوله الظواهر التى تبدو غامضة ومعقدة إلى حد التعجيز. فحتى فى غياب المعلومات الكافية والمنهج النظرى الملائم، يعمل العلماء دائما على محاولة «تخمين» أساسيات المعضلة المطروحة، عن طريق طرح عناصرها بوضوح. لأنه حتى إذا فشل ذلك المنهج فى حلها بطريقة مباشرة وفورية، فهو على الأقل يسرد أهم الأسئلة التى يجب طرحها، والبحث فيها، فى سبيل إيجاد حل لها. أما إذا قام المرء باختراع نظريات لا يمكن تحليل عناصرها وتقييمها عمليا بطريقة منظمة، وإذا قام باختراع نظريات جديدة معقدة فى سبيل إنقاذ نظرياته العبثية إذا فشلت، دون مراجعة أسباب فشلها، فهو يستبدل بذلك عالم المعرفة بعالم أسطورى بديل يصنعه عن طريق خياله النظرى المنقطع عن الواقع.. فى مثل هذه الظروف لا يمكن أن ينمو الفكر العقلانى عامة والعلمى خاصة. والمجتمع الذى يسوده التفكير التآمرى، ربما من الصعب أن ينتج شباباً متشبعاً بفطرة وفضول الفكر العلمى، المبنى على التبسيط التصورى وأيضا على الشفافية والمصداقية المعرفية والفكرية.. لذلك، فربما يشكل انتشار نظرية المؤامرة، أحد أسباب تأخرنا وليس فقط أحد أعراضه. أريد الآن أن أتناول مثالاً محدداً، فى سياق «مسلٍ» قد يعطى فكرة عن كيفية تعامل العلماء أحيانا مع مسائل غامضة وصعبة فى ظل غياب المعلومات الكافية أو المنظومة النظرية الرصينة التى يمكن الاستناد إليها، أى كيف يتبنون منطق «التخمين المعقول» عندما يتعاملون مع معضلات معقدة لا يمكن حلها مباشرة؟. فى سنة 1960، قام عالم الفيزياء الفلكية، فرانك دريك، باستخدام المرصد الفلكى القومى بولاية فيرجينيا الأمريكية للقيام بأول مسح للسماء بحثا عن إشارات كهرومغناطيسية فى مجال الراديو، بهدف الكشف عن موجات قد تكون ناتجة عن إشارات مبعوثة من قِبل حضارات كونية، شيدتها كائنات من خارج المجموعة الشمسية، بمعنى آخر، أراد «دريك» الاستماع لإذاعة «صوت الكون».. ولأنه كان يريد مناقشة هذا الطرح الغريب آنذاك بطريقة علمية، فقرر- بدل من اختراع الأساطير أو الخنوع أمام الانتقادات الساخرة- سرد العوامل التى من الممكن أن تحدد إمكانية وجود كائنات متطورة و»ذكية»، كائنات يمكن أن تبعث بموجات الراديو عبر الكون... وقرر أن من بين هذه العوامل العدد النسبى للنجوم المشابهة لنجم الشمس، والنسبة منها التى تصاحبها «مجموعة شمسية» من الكواكب، ونسبة هذه الكواكب المشابهة للأرض، والتى بالتالى من الممكن أن تستضيف الحياة، ثم احتمال ظهور الحياة البدائية فيها، ثم احتمال تطور هذه الحياة إلى «كائنات ذكية»، ثم نسبة تلك الكائنات التى قد تقيم حضارات يمكن أن تبتكر التكنولوجيا.. ثم أخيرا، عمر تلك الحضارات الزمنى. على هذا الأساس سن «دريك» معادلة رياضية يمكن من خلالها حساب، من حيث المبدأ، عدد الحضارات الكونية داخل مجرة درب التبانة التى تقع فيها الشمس، والتى تحتوى على مئات آلاف الملايين من النجوم الأخرى، الكثير منها مشابهة للشمس من حيث الكتلة والتكوين والعمر. بالطبع، لأن معظم العوامل التى سردناها مجهولة إلى حد كبير (أو حتى تماما)، فإنه لا يمكن استخدام معادلة «دريك» مباشرة للتكهن، بأى دقة، بعدد الحضارات (من عدمه) الذى قد يكون ساكنا مجرتنا، إنما أهم ما فعله «دريك» هو نقل هذا الموضوع الغامض من حيز التكهن الأسطورى (أو مجرد الهزل) إلى حيز المناقشة الجادة نسبياً.. وهذا فى حد ذاته يدفع التقدم العلمى. فمثلا، عندما كتب «دريك» معادلته الشهيرة لم يكن معروفا، إذ كانت هناك كواكب تدور حول نجوم غير الشمس من الأصل، لكن خلال العقدين الماضيين تم الكشف عن أكثر من 500 كوكب خارج المجموعة الشمسية، مما يشير إلى أن الكثير من النجوم الشبيهة بالشمس تصاحبها كواكب مثل الأرض.. ويقدر عدد هذه الكواكب فى مجرة درب التبانة الآن بحوالى خمسين ألف مليون كوكب (حسب خبر نُشر فى عدد الشهر الجارى من مجلة «استرونومى آند جيوفيزيكس» التى تصدرها الجمعية الفلكية الملكية)... والاهتمام الحالى الحاد فى الأوساط العلمية بالأبحاث الرامية للكشف عن هذه «الكواكب الأرضية» يرجع إلى احتمال وجود حياة عليها، أى بأهميتها فى إطار معادلة «دريك». ورغم غرابة مشروع «دريك»، الذى اعتبره بعض العلماء عبثيا، فإن وكاله «ناسا» قد مولت لمدة سنين طويلة مشاريع كثيرة مماثلة تبحث عن موجات «راديو الكون».. المشاريع التى قادها وروج لها فيما بعد علماء مرموقون مثل كارل ساجان.. وبعض هذه المشاريع ما زالت قائمة، وتمولها الآن جهات خاصة... نعم، فالقطاع الخاص فى الولاياتالمتحدة يمول مثل هذه المشاريع، بينما يرفض رجال الأعمال عندنا تمويل حتى البحث العلمى الأساسى العادى.. أو دعم مشاريع تعمل على تبسيط وترويج الفكر العلمى فى مجتمع فقد بوصلته.. مجتمع يسبح تائهاً فى بحار من الأساطير والفكر التآمرى المظلم. [email protected]