هجمات لسمك القرش فى شرم الشيخ.. أصابت بعض السياح وقتلت سيدة ألمانية فى سن السبعين، قد يكون وراء هذه الأحداث الكثير من الأسباب، مثلا، الزيادة فى حركة صيد الأسماك فى عرض البحر، مما يجعل القروش تقترب أكثر نحو الشواطئ بحثا عن الطعام، أو تغيرات مناخية، أو تدمير بعض الشعب المرجانية التى تحمى الشواطئ من وجود أسماك القرش كبيرة الحجم التى عادة لا تستطيع العوم بين الشعب بسهولة، أو ربما حتى مجرد المصادفة هى التى أدت لتوالى تلك الهجمات.. كل هذه الأسباب واردة، وتحدث عنها خبراء علوم البحار والبيئة.. لكن ماذا يأتى فى النهاية على لسان بعض المسؤولين فى مصر؟ إسرائيل- نعم فى نظرهم هناك تفسير واحد وراء تلك الظاهرة، وهو أن إسرائيل وراء المؤامرة التى أتت بأسماك القرش المفترسة إلى شواطئ شرم الشيخ. يبدو أن بعض هذه التصريحات تم نقله بطريقة غير دقيقة، فالدكتور مصطفى الفقى قال لى مثلاً إن كل ما صرح به فى حالة استعجال هو أنه قال إن كل شىء وارد وإنه لا يعرف شيئاً عن علوم البحار، وتم نقل ذلك بمعنى أنه أيد فكرة المؤامرة.. مع ذلك، حتى هذا النوع من الحيادية فى إبداء الرأى فى نظرية تبدو غريبة جدا وغير مرجحة للغاية من الناحية العقلانية، يشير إلى مدى سيطرة هذه الأفكار على الخطاب العام فى مصر وصعوبة اتخاذ آراء سلبية قاطعة تجاهها، ربما خوفا من تهم ال«عمالة» لحساب إسرائيل أو غيرها، ويبدو أن هذا الحذر الناتج يسيطر حتى على شخصيات لها وزنها فى المجتمع المصرى. وفى ظل هذا المناخ تم ترويج نظريات مثيرة فعلاً للهزل، فقال البعض مثلا إن هذه القروش تتم تربيتها فى مدينة حيفا المطلة على البحر الأبيض المتوسط، وإن تلك الأسماك مجهزة بأنظمة «جى.بى.إس»، يتم توجيهها من خلالها... لماذا حيفا بالذات؟! فهى أبعد مدينة ساحلية كبرى فى إسرائيل عن البحر الأحمر، لماذا لم تتم تربية هذه القروش بمدينة إيلات مثلا؟ وهل تأتى القروش عائمة، خلال مسافة ألف كيلو متر، مرورا بقناة السويس؟ ثم إذا كان القرش يوجه عن طريق ال«جى بى اس»، فكيف يتم تنفيذ عملية ال«عض»، هل هو مجهز أيضا بجهاز يمرر له اوامر الهجوم وال«عض»؟ وكل ذلك تفعله إسرائيل فى سبيل إصابة أو قتل سائحين أو ثلاثة.. ربما نفهم الآن لماذا قتل «القرش اليهودى» فى النهاية سائحة ألمانية- ربما أنه كان يريد الانتقام بسبب «الهولوكوست!». هذا الكلام لا يفتقد فقط الجدية، إنما يعكس عقلية عاجزة وعقلاً منغمساً فى شبورة فكرية كئيبة فعلا، ولقد أحزننى هذا المشهد بالذات لأنه بدأ فى التبلور حين كنت أنتهى من مقال الأسبوع الماضى، حيث تكلمت عن نظرية المؤامرة فى سياق تسريبات ويكيليكس، حين حاولت شرح الحيثيات العقلانية نسبياً التى يستند إليها مؤسس الموقع وعرض جزء من تاريخه، لأجد فى النهاية أن الموضوع كله قد تم اختصاره فى خانة المؤامرة هو أيضاً، وذلك لمحاولة إنقاذ نظرية المؤامرة نفسها.. ذلك لأن بالنسبة للكثيرين عندنا كان من الضرورى إنقاذ تلك المؤامرة، فإذا كانت تسريبات ويكيليكس لا تشير بالقدر الكافى لمؤامرات عملاقة تحاك ضدنا، وإذا كانت تنفى بذلك نظرية المؤامرة، فيبدو للبعض هنا أنها هى نفسها جزء من مؤامرة: المؤامرة لنفى المؤامرة. فإذن نحن دخلنا فى مستوى جديد وأعمق من نظرية المؤامرة.. مستوى يخترع المؤامرات لإنقاذ نظرية المؤامرة، لندخل بذلك داخل حلقة مفرغة، فلا يمكن من خلال الإطار الفكرى التى تسبح خلاله نفى المؤامرة حتى من حيث المبدأ، لأن المنظومة الفكرية التى يمكن من خلالها نفى النظرية التآمرية، عن طريق الطرح الدقيق للحقائق والتحليل المنطقى، الذى يأخذ بأبسط الاستنتاجات والعلاقات السببية، صار ملغى لصالح نهج تفسيرى لا يقبل إلا بوجود الأيدى الخافية المحركة، ذلك الكائن الغامض الذى يستهدفنا دائما.. ومن ثم يخترع العقل التآمرى حلقة جديدة لإثبات نظريته عند تحليلها وتفنيدها عقلانيا، ولا يمكن فى هذا الإطار الظلامى أبداً البحث عن أى حقيقة، فكل شىء يحاك فى الخفاء، من خلال عالم ضبابى كئيب لا يمكن فهمه، بل يغيب فيه الفكر العلمى العقلانى- الذى يحاول البحث عن أبسط التفسيرات المستندة للأدلة والقانون المنطقى- من الأصل. أما الشق الآخر المتعلق بهذه العقلية، فهو المرتبط بيقين- ثابت وغريب- بالعجز.. وهو محزن بالذات، لأنه ليس هناك ما يبرره لهذا الحد، فنحن ليس بالضعف وال«خيبة» التى يتصور من يحوم عقله فى نظريات المؤامرة أننا فيها. وإسرائيل (مثلا) ليست بالقوة الخرقاء التى نتصورها، ففى نفس الوقت تقريبا الذى أشاع فيها البعض تلك النظريات الخائبة كانت إسرائيل تطلب منا المساعدة فى إطفاء حرائق الغابات فى الجليل، المساعدة التى قدمناها لها.. لكن لا شك أنه سيكون هناك بالطبع من سيخترع نظريات المؤامرة لتفسير ذلك أيضا- إن لم يكن قد اخترعها وصدقها بالفعل.