بينما يحتدم الجدل بين أفراد النخبة السياسية والثقافية فى القاهرة حول ما آل إليه النظام السياسى المصرى من إفلاس، لغياب المُنافسة والندّية، فإن الريف المصرى يبدو فى ملكوت آخر، غير عابئ بما يجرى فى العاصمة. فقد كانت المعركة الانتخابية (نوفمبر/ ديسمبر) باهتة، وبلا إثارة. وعلى غير العادة، حينما زرت قريتى (بدين)، مركز المنصورة منذ أيام، لم يطلب أحد منى أن أتوسط لدى المسؤولين فى العاصمة من أجل خدمة هنا أو هناك أو وظيفة فى هذه الوزارة، أو تلك المؤسسة. كانت جميع الطلبات لخدمات خارج حدود الدولة المصرية، أهمها عقود عمل فى الخليج أو أوروبا، أو أمريكا. أى أن معظم أبناء الريف يئسوا من حكومتهم، فأداروا ظهورهم لها وقاطعوا انتخاباتها، وتضاعف تطلعهم خارج الحدود. وفى الخليج، كانوا يُحددون دولة قطر ثم الإمارات. وفى أوروبا، كانوا يُفضلون إيطاليا ثم ألمانيا. وفى أمريكا، كانوا يُفضلون كندا ثم الولاياتالمتحدة. وتصور كثير منهم أننى أملك مفاتيح توفير العمل فى هذه البُلدان. بل اعتقد بعضهم أننى أحمل فى حقيبة يدى نُسخاً من عقود عمل فى هذا البلد أو ذاك، ويستطيع أن يذهب بواحدة منها إلى سفارتها أو قنصليتها للحصول على تأشيرة سفر، تفتح له باب الهجرة إلى أحد جنّات الغرب!! وطبعاً، كان النفى أو الاعتذار يتم تفسيره، على أننى «لم أعد أخدم، كما كنت فى سابق الأزمان!» وللأمانة ربما كنت قد ساعدت ثلاثة أو أربعة على السفر منذ عشرين أو ثلاثين عاماً، ولكنى لم أنجح فى ذلك خلال السنوات التالية. حاولت أن أثير أو أستثير فى أبناء القرية وأعيانها حديثاً عن الانتخابات النيابية، التى لم يكن قد مضى عليها أسبوعان، واستجابت قلة محدودة للمُحاولة، ولكن الأغلبية حتى بين المُتعلمين من أبناء القرية، لم تُظهر حماساً أو شهية للحديث عن الانتخابات، وأفادت هذه القلة بأن نتيجة الانتخابات كانت محسومة قبل أن تبدأ المعركة. وبالتالى شأنها، كما قال محمد عبدالحافظ، شأن فريق كُرة قدم يلعب مباراة بلا مُنافس، ومن ثم يُحرز ما شاء من الأهداف، ولا تنطوى على أى مُتعة أو إثارة، بل تُصيب المُشاهد بالملل! سألت عُمدة البلد، الشيخ على عبدالمجيد، عن هذه الظاهرة: فقال: الرجل إنه بالأرقام، يوجد للقرية (بدين) ثمانية آلاف صوت، لأصحابها بطاقات انتخابية، ولكن الذين أدلوا منهم بأصواتهم كانوا ألفاً وثلاثمائة، أى 12%، صوّت معظمهم لمُرشح مُستقل من القرية نفسها، هو محمد إبراهيم رزق، الذى لم تكن لديه فرصة حقيقية أمام مُرشح الحزب الوطنى، الذى كانت تدعمه كل أجهزة الدولة. كنت قد كتبت فى هذه الصفحة منذ سنوات عن مُشاهدات مُماثلة، بعد انتخابات 2005، التى كانت أكثر تنافسية وإثارة، وكان المقال وقتها تحت عنوان «الفلاح الفصيح»، عن فلاح من أبناء القرية، يواظب على قراءة الصُحف، ويُتابع من خلالها الشأن العام الوطنى والعربى والعالمى، كما كان ناشطاً سياسياً منذ كان مندوباً «للاتحاد الاشتراكى» فى القرية، خلال عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، ثم مندوباً لحزب مصر العربى الاشتراكى فى بداية عهد الرئيس الراحل أنور السادات، ثم مندوباً للحزب الوطنى فى أواخر عهد السادات وطوال عهد الرئيس مُبارك، حتى وافته المنية منذ ثلاث سنوات. وكنت مُتغيباً عن البلاد حين انتقل الفلاح الفصيح إلى رحمة الله. وعند زيارة قريتى فى الأسبوع الماضى جاء للسلام علىّ ابن المرحوم أحمد عبدالحافظ، واسمه محمد، فى أواخر العشرينيات من عُمره. ولمست فيه نفس ملامح والده، ونفس اهتماماته بالشأن العام، وأكثر من ذلك فقد أخبرنى أنه يرأس اللجنة المحلية للحزب الوطنى بالقرية! وحينما داعبته حول هذه «الوراثة السياسية»، لنفس الموقع. سارع، قائلاً: «لماذا الاستغراب، يا دكتور؟!.. أليس هذا ما يحدث عند القمة؟!» فأيقنت «أن هذا الشبل من ذاك الأسد». إن فى مصر ما لا يقل عن ستة آلاف قرية، فى حجم قريتى (بدين)، أو أصغر منها قليلا، أو أكبر منها قليلا. وأتذكر أن حجم سُكانها فى تعداد 1947، كان ثلاثة آلاف شخص، وأصبحت فى تعداد 2007، اثنى عشر ألف شخص. أى أنها تضاعفت أربع مرات خلال ستين سنة، بمُعدل مرة كل خمسة عشر عاماً. وقد انعكس ذلك على جوانب عديدة من الحياة فيها وفى أهلها، من ذلك أن الطُرق التى كانت تربطها بالقرى المُجاورة لم تكن مرصوفة، ولم يكن مُعظمها حتى مُمهداً. أما الآن فكل الطُرق التى تربطها بالقُرى الأخرى وبالمُدن أصبحت مرصوفة. بل إن شوارع القرية الرئيسية، أصبحت مرصوفة بدورها. وأذكر أنه إلى بداية خمسينيات القرن الماضى، لم تكن إلا عائلة واحدة تملك سيارة خاصة. أما الآن فهناك ما لا يقل عن مائتى سيارة خاصة مملوكة لعائلات فى القرية، بل إن بعض هذه العائلات تمتلك ثلاث سيارات. كذلك فى طفولتى لم يكن فى قريتى سوى ثلاثة منازل مسقوفة بالمسُلح، وربما عشرة منها مبنية بالطوب الطينى (الأخضر). وفى تجوالى بالقرية فى هذه الزيارة، لم أعثر إلا على بيت واحد من هذا النوع وكان مهجوراً ومُقفلاً. كان الجامعيون أثناء دراستى الجامعية فى ستينيات القرن العشرين لا يتعدون عشرين طالباً، أما الآن فإن عددهم يتجاوز ثلاثمائة، وقد ساعد على هذا النمو الهائل وجود جامعة فى المنصورة، على مسافة 15 كيلومتراً، وأخرى فى دمياط على مسافة سبعين كيلومتراً، وثالثة فى طنطا على بُعد ثمانين كيلومتراً. وحينما ذهبت إلى الولاياتالمتحدة للحصول على الدكتوراه، لم يكن أحد من قريتى قد عبر أى مُحيط، سواء الأطلنطى أو الهندى أو الباسيفيكى، أما الآن، فهناك مئات ممن فعلوا ذلك، بل إن بعضهم قد هاجر، واشتغل وتزوج، ليس فقط أوروبيات أو أمريكيات، ولكن أيضاً كوريات وإندونيسيات ويابانيات، وعاد بعضهم بهذه الزوجات إلى القرية، إما للزيارة أو للاستقرار. بهذا التغير الاجتماعى والثقافى المُتسارع فى قريتى، بدت هموم واهتمامات أهلها أكثر تنوعاً وأكثر تعقيداً، وبدت الانتخابات البرلمانية الأخيرة حدثاً باهتاً، بالنسبة لمُعظم أهالى قرية (بدين)، اللهم إلا ما كان يخص أحد أبنائها، وهو المُرشح محمد نبيل إبراهيم، ولأن نجل الفلاح الفصيح، محمد أحمد عبدالحافظ مندوب الحزب الوطنى فى القرية فكان لا بد أن يؤيد مُرشح الحزب، فقد شعر كثيرون بصراع داخلى، فقرروا عدم المُشاركة، وهذه حالة مُتكررة، حتى فى البُلدان الديمقراطية العريقة، فحينما يتعرض الناخب لضغوط مُتباينة، لا يستطيع حسمها فى عقله ووجدانه، فإنه يمتنع عن المُشاركة، وهذا، على ما يبدو هو الذى حدث فى قرية (بدين).. وربما فى عشرات القُرى الأخرى، وهو أيضاً الأمر الذى يُفسر الانخفاض غير المسبوق فى ضآلة مُشاركة المصريين فى تلك الانتخابات، التى لم تتعد عشرة فى المائة من مجموع الناخبين المُسجلين فى جداول الانتخابات. إن مُقاطعة تسعين فى المائة من أهل الوطن لما فعلته حكومتهم، قبل وأثناء الانتخابات، لهو رسالة واضحة وصاخبة، رغم صمتها الشديد فى مُعظم أرجاء مصر المحروسة. فلا حول ولا قوة إلا بالله [email protected]