حكى لى ابنى مروان أنه بينما كان يقود سيارته على الطريق الدائرى، رأى سيارة لورى تحمل كتلا جرانيتية ضخمة أكبر من حجم اللورى نفسه، انتبه ابنى للمشهد والتفت ليجد هذه السيارة تسير بجانبه، وبدا له المشهد غريبا فلو سقطت على أى شىء لحطمته فى الفور. وتابع مروان بدهشة تتابع سرب اللوريات هذه، وهى تشق الطريق الدائرى كأن تيار الواقع المعاش قد انقطع ليجد نفسه فجأة فى قلب مشهد سينمائى. نظر حوله يتأمل ردود أفعال باقى قادة السيارات فكانت دهشته الأكبر. كان الجميع ينظر إلى الأمام بتقطيبة مؤكدة دون أن يُظهر أحدهم بادرة واحدة للدهشة. ولكى يثبت لى غرابة المشهد أخرج موبايله وأدار تسجيل الفيديو القصير الذى التقطه من داخل سيارته. كان يضرب كفا بكف وهو يضيف: «أعتقد أن سكان القاهرة لو رأوا كائنات فضائية فى المدينة تسير بجانبهم وتشرب شايا بالنعناع على المقاهى لن يندهش أحدهم». كان المدهش بالنسبة له هو تدافع سائقى السيارات، كل يلكز الآخر، كى يتمكن من متابعة طريقه فى تعايش مطلق مع أحد المشاهد العجيبة رغم خطورة أن تسير مثل هذه اللوريات بهذا الحجم إلى جانبهم. دفعتنى الحكاية إلى التفكير فى غياب الدهشة عن حياتنا كمصريين. لم تعد الأشياء الغريبة تثير فينا الدهشة. أعرف أن أيامنا أصبحت تشبه فيلما سينمائيا ثقيل الظل يعتمد مخرجه على تقنية مزج العبثى واللامنطقى بالواقعى، وفى الحياة يؤدى تزايد نسبة العبث إلى التبلد الذى هى مرادف لغياب الدهشة، وللأسف فإن إحدى علامات الاكتئاب الجمعى هو غياب الدهشة. لقد تحولنا إلى ثقافة عاجزة عن تذوق طعم الفرحة ولذعة الحزن، ثقافة ترى الحياة بدرجات الرمادى والأسود فى غياب شبه تام لباقى الألوان. ويتزامن مع الاكتئاب القاتل للبهجة تزايد حالات الهستيريا. وإلا من هؤلاء الذين يحدثون أنفسهم فى الطرقات، وهؤلاء الذين يتشاجرون لأتفه الأسباب. من هم هؤلاء الملايين الذى يبدو على ملامحهم الغم والهم الثقيل والعدوانية وغياب التسامح؟! أعرف تماما ما سيرد به الكثيرون: «هو إحنا فى إيه ولا فى إيه! مش شايفة الدنيا والغلاء والظلم الاجتماعى! مش شايفة حال التعليم والصحة والسياسة! بهجة إيه فى الضنك اللى إحنا فيه؟!». وأعرف أيضا أننى أرفض هذا المنطق، لأنه يضعنى كإنسانة فى موقع الضحية وينزع عنى مسؤولية الوجود. ليس بإمكاننا تغيير واقعنا العام المتأزم الآن، لكن بإمكان كل منا أن يتزحزح إلى منطقة وعى مختلفة، منطقة رؤية للحياة تمكننا من استقبال موجات الدهشة المرسلة دوما وبلا انقطاع، الاختيار فى أيدينا: إما الاستسلام لحالة فقدان الدهشة، حيث تُبهت ألوان الفرحة، وتغيب الضحكات وتتشابه المعانى والمشاعر أو التنقيب الدائم عنها فيما يشبه حفر باطن الأرض من أجل استخراج ذهبها. هناك دهشة فى قصيدة جميلة، فى الأطراف المنمنمة لوليد صغير، فى لقاء غير متوقع مع صاحب قديم، فى كتاب وفيلم ولوحة تشكيلية، فى غروب شمس واكتمال قمر وربتة حنان تأتى بلا ميعاد. أبواب الدهشة مشرعة تنتظر من يدخلها. لكن استعادة الدهشة أمر يستدعى قراراً وإرادة تمكننا من كسر الجدران الزجاجية للاكتئاب، والخروج إلى حيث الحياة الحقيقية، ساخنة وجارحة ومفعمة بلحظات الدهشة.