كان الضرير، الذى مكَّنته عاهته، من الاطلاع على أسرار الآخرين، وحصَّنته من عواقب فضحها، يواصل البوح المنطلق برواياته المثيرة والفاضحة عن أبناء الحى. وكانت العجوز المتصابية، تتزين استعداداً للنوم الحرام فى أحضانه، وتضحك انتشاء وتشفياً فى السكان الذين هتك سترهم بحكاياته، إلى أن اقترب فجأة من البوح بقصتها، والكشف عن العلاقة المشينة بينهما، فلجمت ضحكاتها، وكتمت أنفاسها، وراحت تولول وتندب سمعتها التى استُبيحت للتو. كان ذلك الضرير الفاضح هو «الشيخ حسنى»، بطل فيلم «الكيت كات»، وكانت وسيلته فى فضح جيرانه فى الحى «ميكروفون» عزاء، تُرك مفتوحاً على سبيل السهو، وكانت المرأة المفضوحة «أم روايح».. امرأة «تخاف ولا تختشى». الأمر أشبه إذن بما يفعله الآن «ويكيليكس»، حيث انطلق فى فضح أسرار دبلوماسية وأقوال مثيرة قيلت فى الغرف المغلقة، ووسيلته كانت «الإنترنت» التى تركت أيضاً مفتوحة «على سبيل السهو»، أما المرأة التى حبست أنفاسها تحسباً لورود قصتها، وفضح سر نومها مع «الراوى»، فليست سوى كل حكومة «تخاف ولا تختشى»، و«تقول فى السر ما لا تقوله فى العلن»، و«تنام مع العدو ليلاً، وتوهمنا بمناهضته نهاراً». «لو لم يكن (ويكيليكس) موجوداً لاخترعناه»، هكذا هلَّل كثيرون. فها هى «سلطة خامسة تغرد بعيداً منفردة، تبث من نطاقات عدة، وتستخدم حاضنات عدة، وتتنقل فى بلدان عدة، ويقف وراءها شاب يبدو عصياً على التطويع والاختراق، ويبدو متحدياً لأقوى سلطة فى الأرض». هذا الرجل «أسانج» مثل «الشيخ حسنى» تماماً؛ كلاهما يستمد قوته من ضعفه، وكلاهما يستخدم وسيلة عبقرية فى إغراق الآخرين فى الوحل: «ميكروفون ترك مفتوحاً على سبيل السهو»، وكلاهما ينطلق فى رواية حكايات تكيد بعض أبطالها، وتنصف آخرين، وتقيد البعض، وتحرر آخرين.. وكلاهما بالطبع يدعى العمى. كان «الشيخ حسنى» يفضح استيلاء «صبحى الفرارجى» على بيوت ومحال الحى ب«البلطجة والعنف»، ويشى بتاجر المخدرات «الهرم» وعلاقته المشينة بزوجة «المعلم حسن»، ويعرى ضعف ابنه «يوسف»، ويكشف استلابه ورغبته فى السفر، ويزيح النقاب عن خيانة «روايح» لزوجها الصائغ، وهروبها مع عشيقها. شىء من هذا فعله «ويكيليكس»، فذاك وزير فى بلد محافظ لديه علاقة قوية بوزيرة فى حكومة «العدو»، وهنا وزير يحرض «عدو» بلاده على مهاجمتها، ويشرح له طريقة تفادى المخاطر، فضلاً عن رئيس يصرح للقوى العظمى بقصف متمردين داخل حدود دولته، باستخدام طائرات من دون طيار. هؤلاء قادة يقولون فى السر ما لا يقولونه فى العلن، ويفعلون فى السر ما لا يفعلونه فى العلن؛ فيغرون بضرب جارتهم، ويستخدمون سلطاتهم الدستورية فى تعميق الطائفية وارتكاب المجازر والانتهاكات الدموية، ويمتلكون الحسابات السرية، ويخططون للانقلاب على منافسيهم، ويعتبرون الكذب جزءاً رئيساً من الدبلوماسية. إلى أى حد يتسق ما فعله «الشيخ حسنى» مع تقاليد «الحى» ويخدم استقراره، وإلى أى مدى سيستفيد من «ضعفه» و«الميكروفون الذى ترك مفتوحاً على سبيل السهو»، وبأى قدر سيكون عادلاً؛ فيوزع الفضائح على الجميع بنزاهة، ولا ينسى أن يعرى نفسه ويكشف أخطاءه؟ تحبس سيدات الحى أنفاسهن، خائفات من الضحك على فضائح الأخريات والتشفى فيهن، ومتحسبات لرواية تكشف سترهن، فيما ينطلق «الشيخ حسنى» سادراً فى غيه، مطمئناً لمسار رواياته، ومتحكماً فى وتيرة البوح و«ترتيب القصص». هكذا أيضاً يفعل «ويكيليكس»، يتخير الوثائق، ويختار أوقات بثها، ويلوح ببعضها، ويذيعه أو لا يذيعه من دون أن يبرر تراجعه عن الإذاعة، ومن دون أن نعرف لماذا أذيعت تلك الوثيقة ولماذا حجبت تلك، ولماذا تم التركيز على هذا الموضوع، ولماذا تم تجاهل ذاك. الحرية مصلحة عامة.. وكذلك أمن الجنود فى الميدان، وأسرار الدولة العليا، والعلاقات مع الدول الحليفة والصديقة، وحياة العملاء وأمن أسرهم. يحتاج الأمر إلى أن نوازن دائماً بين الحرية وبين تلك الاعتبارات كلها. عبر «ويكيليكس» إلى الجهة الأخرى، خرق خطاً أحمر. مثل تطوراً نوعياً فى مسار الإعلام وتكنولوجيا المعلومات، استباح أسرار الدولة، وهز منظومة العلاقات الثنائية، وضرب آلاف الأسافين بين الحلفاء والأصدقاء، وأضحك الشعوب على زعمائها. الآن يبحث بعضهم عن مواد فى الدستور لتجريم «استباحة أسرار الدولة والأمن الوطنى»، ويقترح آخرون تقييد «أسانج» أو إسكاته إلى الأبد، ويطالب البعض ب«أخذ الأمر على محمل الجد»، فيما يقلل آخرون من أهميته، وكأن الأمر قدرى وحتمى خارج عن حدود السيطرة. فى فيلم «الكيت كات» كان داوود عبدالسيد وإبراهيم أصلان أكثر اتساقاً مع الواقع، فحسما الأمر ببساطة، إذ تدخل «البلطجى المحتكر المعلم صبحى الفرارجى» بالقول زاجراً: «حد يوقف الكلام الفاضى ده».. وقد كان. وفى «ويكيليكس» لم يتدخل «المعلم صبحى» إلى الآن، وهو أمر يدعو إلى كثير من الشك والتساؤلات عما إذا كانت المسألة حقيقة أم مجرد فيلم؟