انتهاء تنفيذ المجمعات الحكومية وكباري الري بالمرحلة الأولى من مبادرة «حياة كريمة»    حكومة اليمن تتفق مع الحوثيين على أوسع صفقة تبادل أسرى منذ بدء الحرب    الخارجية الفلسطينية: قرار إنشاء 19 مستوطنة بالضفة اعتراف بارتكاب جرائم حرب    الصليب الأحمر: الأطفال وكبار السن الأكثر تضررا من التدهور الإنساني في غزة    وزير الشباب يبحث مع مجلس إدارة النادي الأهلي سبل دعم النشاط الرياضي    سقوط دجال العلاج الروحاني في الإسكندرية بتهمة النصب على المواطنين    تثبيت أول قطعة خشبية على الهيكل الخاص بإعادة تركيب مركب الملك خوفو الثانية بالمتحف المصري الكبير    تعرض محمد منير لوعكة صحية ونقله للمستشفى.. اعرف التفاصيل    جدول امتحانات النقل من الصف الثالث حتي الصف السادس الابتدائي بالمنيا الترم الأول    وكيل تعليم القاهرة يتفقد مدارس إدارة منشأة ناصر التعليمية    لأول مرة تجسد شخصية أم.. لطيفة تطرح كليب «تسلملي» | فيديو    أجواء شديدة البرودة وشبورة كثيفة.. الأرصاد تحذر من طقس غدًا الأربعاء    البورصة تختتم جماعي بمنتصف تعاملات جلسة اليوم الثلاثاء وربح 17 مليار جنيه    4 مراكز بحثية مصرية ضمن العشرة الأوائل على الشرق الأوسط وشمال إفريقيا    رئيس "سلامة الغذاء" يستقبل نقيب الزراعيين لتعزيز التعاون المشترك    رمضان 2026 |خالد مرعي مخرج «المتر سمير» ل كريم محمود عبدالعزيز    ما هو مقام المراقبة؟.. خالد الجندي يشرح طريق السالكين إلى الله    وزارة الصحة: وفد ناميبى يطّلع على تجربة مصر فى إدارة الأزمات والتحول الرقمى    تراجع الأحزاب وصعود المستقلين، تقرير الائتلاف المصري يرصد ملامح جديدة لبرلمان 2025    جامعة كفر الشيخ تكرم طلاب «الذكاء الاصطناعي» الفائزين في مسابقة للمطورين    ملتقى المرأة بالجامع الأزهر يؤكد: الطفولة أمانة شرعية وحق إنساني يُصان    وزيرة التنمية المحلية تبحث التوسع في إنتاج السماد العضوي من وحدات البيوجاز    مليار مشاهدة.. برنامج دولة التلاوة فى كاريكاتير اليوم السابع    وكيل وزارة الشباب والرياضة بالفيوم يستقبل لجنة «المنشآت الشبابية والرياضية» لمتابعة أعمال مراكز الشباب بالمحافظة    15 يومًا حبسًا لقاتل صديقه بالدخيلة.. مزّق الجثمان وأخفاه بسبب 1200 جنيه    البحوث الفلكية تكشف موعد ميلاد شهر شعبان وأول أيامه فلكيا    حكام مباراة الثلاثاء ضمن منافسات الدوري الممتاز للكرة النسائية    اللجنة الدولية للصليب الأحمر تعلن استعدادها لدعم عملية إطلاق سراح المحتجزين في اليمن    محمد منير بخير.. مصادر مقربة تكشف حقيقة شائعة تعرضه لوعكة صحية    أمم إفريقيا – مؤتمر مدرب السودان: أحيانا أسمع وفاة أحد أفراد أسرة لاعب في الفريق    الاستفتاءات والتكريمات والجوائز ومصانع المكرونة؟!    جيش الاحتلال: لن ننسحب من قطاع غزة ولن نتحرك مليمترا واحدا من سوريا    ميناء دمياط يضخ 73 ألف طن واردات في يوم حيوي    وزيرة التعاون الدولي ونظيرها الأرميني يترأسان أعمال الدورة السادسة للجنة المصرية–الأرمينية المشتركة    أمم إفريقيا - مؤتمر محرز: لا أعذار.. نريد كتابة تاريخ جديد لمنتخب الجزائر    محافظ شمال سيناء يفتتح عددا من الوحدات الصحية بمدينة بئر العبد    «اليونسكو» تكرم محافظ المنوفية تقديراً لجهوده في دعم التعليم | صور    روسيا تبارك انتخاب خالد العناني لرئاسة اليونيسكو: فرصة لإعادة الحياد إلى المنظمة    مقتل 5 أفراد الشرطة الباكستانية في هجوم مسلح بإقليم خيبر بختونخوا    وزير التعليم في جولة مفاجئة بمدارس إدارتي ببا وسمسطا بمحافظة بني سويف    ضبط شخصين بالمنيا لاتهامهما بالنصب على المواطنين    لو لقيت فلوس في الشارع تعمل إيه؟.. أمين الفتوى يُجيب    إدارة ترامب ترفع مكافأة الترحيل الطوعي للمهاجرين إلى ثلاثة آلاف دولار    البابا تواضروس الثاني يستقبل الأنبا باخوميوس بدير القديس الأنبا بيشوي بوادي النطرون    «الصحة» توقيع مذكرة تفاهم مع «فياترس» لتطوير مجالات الرعاية النفسية    الحمصاني: الحكومة تستعد لتنفيذ المرحلة الثانية من منظومة التأمين الصحي الشامل    ضبط صاحب شركة بالإسكندرية لتجارته غير المشروعة بالألعاب النارية والأسلحة    الأهلي في اختبار صعب أمام المحلة بكأس الرابطة    الاحتلال الإسرائيلي يواصل خرق اتفاق وقف إطلاق النار بأنحاء متفرقة من غزة    وائل القباني: هجوم منتخب مصر الأقوى.. والتكتيك سيتغير أمام جنوب إفريقيا    مواقيت الصلاه اليوم الثلاثاء 23ديسمبر 2025 فى المنيا    أمم أفريقيا والأهلي في الرابطة.. مواعيد مباريات اليوم الثلاثاء    الداخلية تسمح ل 23 شخصا بالتنازل عن الجنسية المصرية    رئيس الوزراء: مبادرة «حياة كريمة» أكبر مشروعات القرن الحادي والعشرين    وزارة التعليم: أحقية المعلمين المحالين للمعاش وباقون في الخدمة بحافز التدريس    نظر محاكمة 89 متهما بخلية هيكل الإخوان.. اليوم    «المستشفيات التعليمية» تعلن نجاح معهد الرمد والسمع في الحصول على اعتماد «جهار»    أمم إفريقيا - ياسر إبراهيم: أحب اللعب بجانب عبد المجيد.. ونعرف جنوب إفريقيا جيدا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وداع لا يليق إلا ببوش
نشر في المصري اليوم يوم 23 - 12 - 2008

فجأة قرر جورج دبليو بوش أن يقوم بزيارة «وداع» لبغداد، وأن يحول تلك الزيارة، التى تمت خلال الأسبوع الماضى، إلى مناسبة للاحتفاء بالتوقيع على «الاتفاقية الأمنية» التى يعتبرها إنجازاً كبيراً له يستحق أن يشرح دلالاته للعالم أجمع..
وأثناء المؤتمر الصحفى الذى عقد خصيصاً لهذا الغرض وبثته الفضائيات على الهواء مباشرة، فوجئ ملايين المشاهدين فى مختلف أنحاء العالم بشاب ينحنى ليخلع فردة حذائه ثم يقذف بها بكل قوته فى وجه بوش، مصحوبة بسيل من الشتائم المقذعة، ثم يعود فينحنى ليلتقط فردة حذائه الثانية ويكرر من جديد نفس ما فعله فى المرة السابقة، بينما العالم كله فى حالة ذهول من هول المفاجأة،
وبذلك انقلب المشهد، الذى أراد له بوش أن يكون تتويجاً لانتصار وهمى لم يحدث إلا فى ذهنه، إلى مشهد خزى لم يسبق لأى مسؤول فى العالم أن ذاق مثله! فقد دخل بوش التاريخ لا بوصفه محرر العراق ولكن بوصفه الرئيس الذى ودعه الشعب العراقى بالضرب بالحذاء فى حفل جماهيرى على الهواء.
بعد لحظات تبين أن الشاب الذى قام بهذا العمل المثير، والذى أصبح حدث العام وحديث العالم، هو صحفى عراقى اسمه منتظر الزيدى يعمل بإحدى الفضائيات العراقية،
ولأن الحدث أثار ردود أفعال مدوية، فقد بدأ المحللون السياسيون وعلماء النفس ينخرطون فى جدل حاد، ليس فقط حول دلالة ما وقع، ولكن أيضاً - وعلى وجه الخصوص - حول دلالة ردود الأفعال الشعبية تجاهه، فبينما اعتبرت الأغلبية الساحقة فى العالم العربى أن ما قام به الشاب العراقى عمل وطنى شجاع يستحق التقدير والاحترام، بل بلغ الحماس بأحد المواطنين العرب حداً جعله يعرض شراء حذاء الزيدى بعشرة ملايين دولار،
ويبدى استعداده لبيع كل أملاكه فى مزاد علنى لهذا الغرض، اعتبر نفر قليل أن ما قام به الزيدى تصرف يفتقر إلى اللياقة والذوق، ويخرج عن حدود الأدب والشهامة، وأن ردود الأفعال الشعبية الإيجابية تجاهه تشكل دليلاً قاطعاً على أن الشعب العربى يستحق أمثال صدام.
لو أن شخصاً تصرف على هذا النحو فى مواجهة شخص آخر، ناهيك عن أن يكون هذا الآخر هو رئيس دولة، لاعتبر تصرفه فى الأحوال العادية تصرفاً غير لائق ولا يصدر إلا عن شخص غير متحضر،
فما بالك عندما يكون مرتكب الفعل المدان صحفياً يفترض أن تنحصر مهمته الأساسية فى نقل الأخبار، وربما التعليق عليها، ولكن ليس صنعها أو التعبير عن وجهة نظره هو بشأنها، غير أن المعايير القابلة للتطبيق فى الأحوال العادية لا تصلح للاستخدام أبدا فى الأحوال الاستثنائية، ومنها هذه الحالة تحديداً، فمنتظر الزيدى مواطن عراقى قبل أن يكون صحفياً،
وقد أراد أن يعبر بطريقته عن كراهيته واحتقاره لشخص رئيس أمريكى، اسمه جورج دبليو بوش تحديداً، يعتبره المسؤول عما لحق ببلاده من دمار، لذا تقضى قواعد العدالة والإنصاف، فى تقديرى، أن ننظر للحدث بعيون أخرى، وأن نتعامل معه طبقاً لقواعد ومعايير مختلفة عن تلك التى يمكن تطبيقها فى الظروف والأحوال العادية،
ومن هذا المنطلق أضم صوتى إلى كل الذين رأوا فيما قام به منتظر الزيدى عملاً شجاعًا مبررًا، ويعكس حقيقة المشاعر التى يكنها كل وطنى عراقى، وكل قومى عربى، بل كل ضمير إنسانى حى تجاه شخص الرئيس الأمريكى جورج دبليو بوش،
ولا أظن أنى أبالغ إذا قلت إنه يصعب على المرء أن يعثر فى أى صفحة من صفحات التاريخ المعروف للشعوب على حدث فردى وعفوى يماثل هذا الحدث فى قدرته على تجسيد مشاعر وطن، ومشاعر أمة، بل مشاعر كل إنسان شريف فى العالم،
فقد تمنى كل واحد من هؤلاء لو أتيح له أن يشارك بنفسه فى تلك اليد المباركة التى التقطت فردتى الحذاء وقذفتهما فى وجه حاكم ليس سوى مجرم حرب حتى لو كان بدرجة رئيس الدولة الأعظم فى عالمنا المعاصر.
لا تتوافر لدىّ فى هذه اللحظة معلومات تكفى لتقديم تحليل منضبط عن شخصية منتظر الزيدى، أو للتعرف على كيفية وتوقيت ولادة هذه الفكرة البسيطة والعبقرية فى ذهن هذا المواطن العراقى الرائع، أو على الحالة النفسية التى كان عليها حين شرع فى تنفيذ فكرته،
ومع ذلك فهناك ما يكفى من المؤشرات التى تسمح باختبار صحة مجموعة من الافتراضات منها:
1 - أن الزيدى لم يقم بما قام به بوحى من أحد أو لحساب تنظيم أو وجهة داخلية أو خارجية، وبالتالى فما قام به ليس عملاً مسيساً ومنظماً.
2 - أن ما قام به هو تعبير عن مشاعر فردية وشخصية ولدوافع وأسباب وطنية خالصة.
3 - أن اختيار وسيلة التعبير عن تلك المشاعر جاء عفو الخاطر ووليد اللحظة ولم يكن عملاً مخططاً أو مدبراً، والأرجح أن تكون الفكرة قد انبثقت فى رأس صاحبها بطريقة لا إرادية وعقب دخول القاعة المخصصة للمؤتمر الصحفى، وليس قبل ذلك، وهنا تكمن روعة الحدث ودلالاته العميقة والمذهلة.
فصاحبنا شاب توحى حداثة سنه بأنه ينتمى إلى جيل غير الجيل الذى تربى فى أحضان البعث أو تأثر وجدانيا بأطروحاته الأيديولوجية، والأرجح أن يكون وعيه السياسى قد بدأ يتشكل فى مرحلة ما بعد الغزو العراقى للكويت،
ثم راح ينمو فى ظل الحصار الخانق الذى فرض على بلاده عقب ذلك الغزو إلى أن اكتملت معالمه تدريجياً مع تلاحق الأحداث التى أفضت إلى قرار بوش بشن الحرب على العراق بدعوى امتلاكه أسلحة دمار شامل،
بل إننى لا أستبعد مطلقاً أن يكون صاحبنا واحداً من كثيرين ربما شعروا بالارتياح لسقوط صدام وانهيار نظامه لكن دون أن يعنى ذلك بالضرورة ترحيباً بالاحتلال الأمريكى أو تأييداً له،
ولأن مهنة صاحبنا هى الإعلام، فلا جدال فى أنه كان أكثر من بقية أبناء جيله قدرة على متابعة حقيقة ما جرى ويجرى لبلاده قبل وأثناء وبعد الغزو الأمريكى، وتبين له من خلال هذه المتابعة أن بوش كذب على شعبه وعلى العالم كله لتبرير حربه العدوانية، وأنه كان يخطط لشن هذه الحرب منذ لحظة وصوله إلى السلطة،
ولأسباب لا علاقة لها لا بأسلحة الدمار الشامل أو بتحقيق الديمقراطية فى العراق أو فى المنطقة ككل أو حتى بالحرب على الإرهاب! ولأنه ليس من المستبعد أن يكون لصاحبنا أهل أو أقرباء أو أصدقاء قتلوا أو شردوا أو هاجروا ضمن ملايين آخرين،
 فمن الطبيعى أن يستقر فى وعيه شعور عميق بالكراهية تجاه من يعتقد أنه المسؤول الأول عما حل بالعراق من كوارث، وأن تتولد لديه رغبة دفينة فى التعبير عن احتقاره الشديد له أو حتى الانتقام منه.
لكن لماذا وقع التعبير عن ذلك الشعور فى هذا التوقيت تحديداً، وأخذ هذا الشكل المبتكر الذى أذهل ملايين المشاهدين فى مختلف أرجاء المعمورة؟
أظن أنه يمكن العثور على إجابات منطقية لهذه التساؤلات، فحتى بافتراض أنه سبق لمنتظر الزيدى أن حضر مؤتمرات صحفية لبوش واقترب منه إلى هذا الحد، إلا أن الأرجح أن ملابسات واستفزازات اللحظة هى التى دفعت صاحبنا إلى الإقدام على ما فعل،
فالرئيس الأمريكى أتى هذه المرة إلى العراق فى أعقاب انتخابات عبر فيها الشعب الأمريكى بوضوح تام عن رفضه لسياساته، وبعد أن سقط حزبه فى الانتخابات ونشرت استطلاعات رأى تشير إلى أن 77٪ من النخبة الأمريكية تعتبر بوش الرئيس الأسوأ فى التاريخ الأمريكى كله،
لكن يبدو أن هذه الحقائق كلها لم تكن تعنى شيئاً بالنسبة لهذا الرئيس الذى «توحى هيئته بتخلف فطرى واضح»، الذى سعى جاهداً لقلب الحقائق رأساً على عقب ولتحويل جرائمه فى العراق إلى مكاسب وإنجازات وانتصارات،
فهل يمكن، رغم ذلك وبعد ذلك كله، أن نوجه اللوم إلى شاب عراقى، حتى ولو كان صحفياً، تضعه الأقدار على مرمى حجر من رئيس مجرم عديم الحساسية تسبب فى تدمير وطنه، إذا ما قرر أن يعبر عن مشاعره تجاهه بقذف نعليه فى وجهه؟
فالإنصاف يقتضى أن يحاكم بوش، وأن ينال العقاب الذى يستحقه بسبب ما ارتكبه من جرائم فى حق العراق والإنسانية، لا أن يزج بمن عبر عن مشاعره تجاهه فى غياهب السجن، صحيح أنه عبر عنها بطريقة لا تليق بالرؤساء أو حتى بأى إنسان، لكن ما الذى كان بوسع مواطن عراقى أن يفعل للتعبير عما يجيش به صدره من مشاعر الازدراء تجاه شخص بوش؟
لم يكن منتظر الزيدى يفكر فى الانتقام، لكنه أراد فقط توديع بوش بالطريقة الوحيدة التى يستحقها، وأظن أنه نجح فى تحقيق هدفه تماماً وربما لن يؤدى حذاء منتظر إلى تحرير العراق، لكنه قدم أكبر دليل على أنه بوسع الشعوب أن تقدم وسائل مبتكرة للاحتجاج على السياسات التى ترفضها، لقد كان حقاً خير وداع لبوش!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.