رغم كل ما نشرته جريدة الأهرام، خلال الأيام الماضية، عن «الحادث الفظيع»، يظل هناك شىء أبشع من كل ما قيل عن الحادث لم يقله أحد حتى الآن. الحادث وقع فى الساعة الثالثة والربع ظهر يوم الخميس الماضى فى شارع أحمد عرابى بالمهندسين، عندما صدمت سيارة ميكروباص، سيارة ملاكى يقودها الأستاذ توفيق عبدالرحمن، وكيل وزارة الإعلام الأسبق، الذى نزل من سيارته لاستطلاع ما حدث، فإذا بسائق الميكروباص - وهو صبى فى السابعة عشرة من عمره - يستعد لمغادرة المكان دون أن يعبأ حتى بالاعتذار، فطلب منه الأستاذ توفيق أن يتوقف، ولكن شخصا آخر - اتضح أنه مالك الميكروباص - كان يجلس فى الكرسى الأمامى، أمر السائق بأن يواصل السير، والتفت إلى الأستاذ توفيق وأمره بالابتعاد عن السيارة وإلا سيضطر إلى دهسه، وخلال ثوان فوجئ المارة بمشهد الرجل العجوز وهو يتعلق بمرآة الميكروباص للحظات خاطفة، ارتطم بعدها جسده بالأرض ثم داست العجلة الخلفية فوق رأسه فلقى مصرعه فى الحال. زحام الساعات الأخيرة فى نهار رمضان، هو الذى ساعد ثلاثة أشخاص من شهود الحادث على تعقب الميكروباص، الذى صعد كوبرى مطار إمبابة، وتكفل الزحام الكارثى فى هذه المنطقة بحصار الميكروباص قبل أن يفلت بجريمته إلى حيث لا يمكن لأحد أن يتعرف عليه أو يلتقط أى معلومة تشير إلى مالكه أو سائقه، فقد اتضح أن الميكروباص بلا لوحات معدنية، ولا يوجد له ملف فى المرور، وسائقه لا يحمل رخصة قيادة، ومالكه اشتراه بعقد ابتدائى ينص على استخدامه كقطع غيار أو خردة، ولكنه استخدمه فى نقل الركاب من أوسيم إلى مطار إمبابة. كيف إذن تجاوز هذا الميكروباص كوبرى مطار إمبابة، وظهر فى قلب شارع أحمد عرابى بمنطقة المهندسين؟ وأى فوضى ضريرة جعلته يمر من أمام كمائن مرور الجيزة المنتشرة بكثافة على جانبى هذا الشارع دون أن يتفضل ضابط أو أمين شرطة بإيقافه ومصادرته والقبض على سائقه كما ينص قانون المرور الجديد؟.. الإجابة نعرفها.. ولكنها من فرط وجودها وضجيجها وانفلاتها تبدو وكأنها الخطيئة التى أدمناها ولا نجرؤ على مصارحة أنفسنا بها. إنها بالضبط الحالة ذاتها التى أمسك بها القاص المبدع الدكتور يوسف إدريس فى قصته القصيرة «بيت من لحم» التى كتبها قبيل أسابيع من نكسة 1967. فى «بيت من لحم» تعيش أرملة شابة مع بناتها الثلاث القبيحات الفقيرات فى غرفة واحدة.. وبعد عامين من رحيل زوجها تتزوج من المقرئ الكفيف الذى كان يزورهن كل جمعة لتلاوة القرآن على روح المرحوم.. ولأنها غرفة واحدة، فقد اعتاد الزوج الضرير أن يضاجع الأم محتميا بظلام عينيه وظلام الغرفة واعتادت الفتيات الغائرات على التقاط أدق تفاصيل الحالة وهن يتظاهرن بأنهن نائمات.. ولأن الزوج الضرير كان يتعرف على «حلاله» من الخاتم الذى تلبسه فى إصبعها، فقد التقطت الابنة الوسطى الخاتم ذات مرة وضاجعت زوج الأم.. ومع الأيام فهمت الأم ما يدور، فاعتادت أن تترك الخاتم إلى جوار المصباح، لتضعه كل ليلة واحدة منهن وتأخذ مكانها - بالدور - فى حضن الرجل الضرير الذى فهم بدوره ما يحدث وتظاهر بأنه لا يعرف «ولاذ بالصمت.. الصمت الذى أصبح يلوذ به الكل.. الصمت الإرادى هذه المرة، لا الفقر، ولا القبح ولا الصبر ولا اليأس سببه، إنما هو أعمق أنواع الصمت.. فهو الصمت المتفق عليه أقوى أنواع الاتفاق، ذلك الذى يتم بلا أى اتفاق». نعم إنها الحالة ذاتها.. فنحن نعرف أن الميكروباص مسروق، وأن سارقه باعه فى محافظة أخرى، وأن الصمت المتفق عليه بين الحرامى والمكلف بضبط الحرامى ومالك السيارة المسروقة والمكلف بضبطها ومصادرتها لأنها بلا لوحات.. وانهماك الأجهزة فى تحصيل الغرامات هو أقوى أنواع الاتفاق الذى تم بلا أى اتفاق، وهو الذى أحال هذا البلد إلى «بيت من لحم» لم يعد يعنيه غير تحصيل الغرامات من لحمه الحى. [email protected]