أكتب هذه الكلمات عشية رحلة إلى بيروت بدعوة من مؤسسة الفكر العربى للاشتراك فى اجتماع حول التقرير السنوى الثالث للمؤسسة عن التنمية الثقافية فى العالم العربى. سافرت إلى بيروت لأول مرة عام 1969 منذ 40 سنة وأنا فى منتصف العشرينيات من العمر، وحتى عام 1975 كنت أذهب إليها كل عدة شهور، ولا أتصور الحياة من دون هذه الرحلات إلى بيروت، مثل من يسبح ويخرج من تحت الماء ليتنفس ويستعيد قدرته على مواصلة السباحة، ففى بيروت كنت أشاهد الأفلام التى لا تعرض فى القاهرة، وأشترى الكتب التى لا تباع فى القاهرة، وأنشر المقالات والكتب التى لا تنشر فى القاهرة، وأتحدث بحرية مع الزملاء والأصدقاء على المقاهى دون خشية أن يسمعنا أحد عمال المقهى ويبلغ سلطات الأمن، فيتم القبض علينا جميعاً قبل أن نعود إلى بيوتنا. بعد ذلك أدركت أن بيروت فى الربع الثالث من القرن العشرين ورثت دور الإسكندرية فى النصف الأول من ذلك القرن، وهو دور المنارة التى تعبر عن الحرية والتعايش بين الأعراق والثقافات، وبعد ذلك أدركت لماذا كان «الرفاق» من الشيوعيين والإسلاميين والقوميين يقولون إننى «برجوازى متعفف» أنشد «حرية وهمية» لا وجود لها برفضى الانضمام إلى أى حزب سرى أو علنى، ولا أعرف الطريق إلى «الحرية الحقيقية». الآن أدرك لماذا لم أذهب إلى بيروت منذ عام 1975، ففى آخر زيارة ذلك العام تم إطلاق الرصاص على السيارة التى كنت أستقلها على الطريق من بيروت إلى دمشق، وكانت أول مرة، وآخر مرة حتى الآن أسمع فيها أصوات رصاص حقيقى، وليس على شاشة السينما: كانت الحرب الأهلية المستمرة بشكل أو آخر قد بدأت، وتحولت بيروت إلى صفحة من التاريخ الذى مضى ولن يعود مثل الإسكندرية. وفى عام 1982 كنت عائداً من بودابست إلى القاهرة عن طريق دمشق فى فبراير، وذهبت إلى بيروت لعدة ساعات حيث تجولت مع الصديق إبراهيم العريس فى سيارته بين بيروتالشرقيةوبيروتالغربية، وكانت جولة بين الأطلال لا أنساها مدى الحياة، لقد تم تدمير مدينتى الثانية بعد القاهرة، وتم تدمير ما كانت تعبر عنه. الآن أدرك أنه كان لابد من تدمير معانى الإسكندرية وتدمير بيروت بمعانيها ومبانيها حتى يتمكن «وحوش الإنسانية» من التحرك بحرية كاملة فى العالم العربى من المحيط إلى الخليج. [email protected]